أحداث الثورة السورية الكبرى

إن وعورة الجبل وقسوة مناخه وتمسك السكان بالأرض ولدّ الإرادة الثورية القوية لدحر الفرنسيين، فقد أعلن سلطان باشا الأطرش الثورة رسمياً ضد الفرنسيين في كامل الأراضي السورية بتاريخ 23 آب 1925م، حيث انضمت دمشق وحمص وحماه ونواحيها ومنطقة الشوف بلبنان إلى الثورة، وأبلى الثوار بلاءً حسناً في إنزال الهزائم بجيوش المستعمرالفرنسي...تحركت الثورة من كل مدن سوريا بقياده عدد من الأبطال المجاهدين، منهم (إسماعيل باشا بن إبراهيم الحريري) شيخ مشايخ حوران، وإبراهيم هنانو، وحسن الخراط، والشيخ صالح العلي واشترك فيها كافة فصائل الشعب، ورشح المجاهد سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى لأنه أحد الأبطال القوميين في ذلك الزمان ولما كان يمتلك من الجرأة والقوة وحفظ الضيف واللسان وقد ساعده ذلك على كسب محبة وثقة الموحدين الذين ساعدوه في مسيرة التحرير، كما تساعد ثوار الجبل مع ثوار الغوطة في دمشق، مما جعل فرنسا تعمل على تشكيل مفاوضين من مختلف محافظات سورية وعمل انتخابات برلمانية مستقلة استمر على عقبها رجال الدولة والسياسيون السوريون وقادة الثورة من أمثال (حسين مرشد وحسن أبو ترابي وأمين أبو ترابي) بالإضافة إلى الكثيرين من الأبطال الذين لم تذكر أسمائهم في الصحف آنذاك لضعف وسائل الإعلام في البلاد العربية ، ولم تهدأ الحال في البلاد وتمت الانتخابات البرلمانية المستقلة في الثلاثينات ورفض الزعيم سلطان باشا الأطرش استلام الرئاسة أو تشكيل حكومة مستقلة في السويداء لما في ذلك من تقسيم للمنطقة وتوالت الضغوط حتى تم الاستقلال الشامل عام 1946م.
 

بدء الثورة في جبل العرب

انطلق سلطان باشا الأطرش ورفاقه من بلدة (رساس) إلى قرى الجبل لحثهم على الجهاد ضد الفرنسيين ويستثير النخوات وهم يرددون:
حرايباً ودها تصير              ما هي على جال الخفا
العام في بطن الشعيب              واليوم بيروس الشفا
فلقي تجاوباً وخصوصاً في القرى الجنوبية، فتجمع لديه في قرية (عرمان) مئتين وخمسين خيالاً، وقد حلقت في 19 تموز من عام 1925م فوقهم طائرتان لبث الرعب والاستكشاف
الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد ص 125 فأطلق الثوار عليها الرصاص من مشارف نبع (البحصاص) فسقطت إحداها في جنوب قرية (امتان) وتم القبض على طياريها، وفي اليوم التالي توجه سلطان ورفاقه إلى دار البعثة العسكرية الفرنسية في (صلخد) فأحرقها، معلناً بدء الكفاح المسلح في الجبل ضد الفرنسيين.

معركة الكفر في 21 تموز 1925م: انطلقت حمله فرنسية من قلعة السويداء باتجاه الجنوب، بقيادة الكابتن (نورمان) الذي استخف بقدرات الثوار وذلك ليعيد هيبة السلطة الفرنسية، وفي صباح 21 تموز 1925م قامت طائرة يقودها الكابتن (دي بويسون) باستطلاع طريق (السويداء - الكفر - صلخد) فلم يلحظ ما يثير الريبة في نفسه، ما جعل نورمان يتجه إلى الكفر ظهر ذلك اليوم ويتمركز حول نبعها عند هضبة صخرية، وقد فصل المشاة عن الخيالة فسهل على الثوار القضاء على كل فئة منفردة بالتوالي، أرسل زعماء القرية إلى نورمان مبعوثاً لينصحه بالانسحاب فأجابه بالرفض، وكرر التهديدات بالقبض على سلطان وأعوانه وأنه يستطيع أن يقتل ثلاثة آلاف درزي بالرشاش الذي معه، وقال لهم اذهبوا إلى سلطان وقولوا له أنني بانتظاره على أحر من الجمر في هذا المكان.
تقدم المجاهدون من الكفر وكانوا يتألفون من بضع مئات بينهم بعض البدو من سكان الجبل، وغالبة الثوار كانوا مشاة والآخرون خيالة وكان سلاحهم في الأغلب السلاح الأبيض في حين كان القلة يحمل بنادق (الموزر) الألمانية وبنادق عثمانية، في مقدمتهم البيارق وعازفو المجوز (الناي) لإثارة الحماسة، وخصوصاً إن هذا اليوم يصادف الذكرى الثالثة لثورة سلطان الأولى على الفرنسيين، وقبل أن يبدأ سلطان الهجوم أرسل لنورمان كتاباً يستنكر فيه عملية الغدر التي قامت بها السلطة الفرنسية باعتقال الزعماء ونفيهم إلى الحسكة وتدمر وطلب المفاوضة لكن نورمان رفض بسبب اعتداده بقوته وانه قدم لإخماد فتنة الموحدين،
الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد ص 126 بعد انسحاب المجندون الدروز العشر من الحملة بدأت المعركة ظهراً حسب الخطة التي وضعها سلطان باشا فاستولى الثوار على رشاشين كانا يحميان زوايا المخيم الفرنسي وحالت سرعة هجوم الثوار وهول المفاجأة بين الفرنسيين وأسلحتهم، وبدأ القتال بالسلاح الأبيض حيث تمكنوا من قتل نورمان قائد الحملة والكابتن (هلم جيزون)، دامت المعركة ساعتين قضى الثوار فيها على الحملة كلها تقريباً، بينما كانت خسائر الموحدين في معركة الكفر أربعون شهيداً من بينهم شقيق سلطان الأطرش (مصطفى الأطرش) و(إسماعيل الأطرش) كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي ص 116 ، يذكر سلامي عبيد في كتابه الثورة السورية الكبرى ص 125 إن الحملة تتألف من 300 جندي وثلاثين خيال مسلحين بالرشاشات وعشرة من المجندين الدروز، قتل أغلبهم، بينما الثوار استشهد منهم ما يقارب الخمسين مجاهداً، بينما يذكر الرائد إحسان هندي في كتابه كفاح الشعب العربي السوري، أن الحملة مؤلفة من 172 جندياً فرنسياً قتلوا جميعهم ويذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه لم ينجوا من معركة الكفر من الجنود الفرنسيين إلا خمسة.
غنم الثوار في هذه المعركة جميع الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك التالية كما غنموا الخيول والمئونة، إلا إن أبرز النتائج هي عودة الثقة إلى نفوس المواطنين في قدرتهم على المقاومة كما كانوا في العصر العثماني، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً بيد الثوار أمر المبادرة وسرعة الانقضاض، حتى إن حامل راية قرية ملح وهو الشاب (شهاب غزالة)
 قد غرس حاملة البيرق في ظهر رامي الرشاش فصرعه ولكنه استشهد في نفس المعركة.  

حصار السويداء الثاني 28 تموز: بعد وصول أخبار الانتصار المشرف للثوار في الكفر إلى الكومندان (تومي مارتان) حاكم الجبل بالوكالة التجأ إلى قلعة السويداء مع موظفيه الفرنسيين وعائلاتهم، وفي 28/7/1925م وصل سلطان باشا والثوار إلى السويداء وفرضوا حصارا شديداً على القلعةً حيث تبلغ تعداد حاميتها500 رجل، فاضطرت القيادة الفرنسية إرسال سرباً يضم ست طائرات للمرابطة في  ازرع وتقديم المعونة للحامية المحاصرة، لكن الثوار الأشاوس أسقطوا هذه الطائرات واحدة تلو الأخرى خلال 45 يوماً، فذعر المندوب السامي سراي لكل الانتصارات التي حققها الثوار فأرسل كبرى الحملات التي قادها خيرة جنرالات فرنسا، فكانت حملة ميشو وغاملان.

معركة المزرعة في 2و3 آب عام 1925م: استطاع الثوار هزيمة حملة الجنرال (ميشو)، واتصفت هذه المعركة بأنها عربية وعسكرية وشعبية لأنها حطمت أسطورة الجيش الفرنسي المهاجم والذي قوامه 18 ألف جندي، وسطر الثوار في هذه المعركة أروع ملاحم البطولة في تاريخ مقارعة الاستعمار، يروي سلطان باشا مجريات المعركة عن كتاب أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش - مصطفى طلاس - من صفحة 108 وما بعدها فيقول:
«وعندما لمست تلك المشاعر الوطنية الصادقة التي عبّرت عنها الأكثرية الساحقة من أعيان الجبل وأهل الرأي فيه، قررت زيارة قرى المقرن الغربي وأعمل على جمع كلمة أبنائها وحشد قواهم، خصوصاً والأخبار التي كانت ترد إلينا تباعاً تفيد أن الفرنسيين الذين أذهلهم انتصارنا المؤزر في الكفر، وحصارنا الشديد لقلعة السويداء، قد أخذوا يجمعون قوات عسكرية كبيرة في محطة (ازرع) الحورانية لغزو الجبل وتدميره والقضاء على أية حركة معادية لهم فيه.

جلنا جولتنا في بعض قرى المقرن الغربي، فتقرّر على إثرها أن نعقد اجتماعا في30 تموز، بجوار نبعة (قراصة) لدراسة الموقف بصورة عامة، والبحث في مسألة الحشود الفرنسية في محطة ازرع بصورة خاصة، ولما حان موعد الاجتماع، وأخذت بيارق القرى تتوارد إلى المكان من مختلف أنحاء الجبل، وصل عمي عبد الغفار إلى قرية الدور، بعد أن أطلق الفرنسيون سراحه، وانتقل منها إلى قرّاصة ليعرض علينا وساطته، وينقل إلينا شروط العدو لوقف القتال وإعادة الأمن إلى نصابه في الجبل، فوقف على رابية مرتفعة حيث أطل بقامته الفارعة وشخصيته المهيبة على الجمهور، وقال بصوته الجهوري ما معناه:
«يا دروز!.. إنكم تثورون الآن على فرنسا، دولة كبيرة مشهورة بقوتها وجبروتها في العالم أجمع، وقد أخذت تحشد منذ بضعة أيام جيشاً جراراً في إزرع، يزيد أفراده عن عشرة آلاف مقاتل، غير الدبابات والمصفحات والمدافع الثقيلة والطائرات الحربية، التي شاهدتها بأم عيني أثناء عودتي من المنفى، ستتعرض قرانا وبيوتنا إل الخراب والدمار وسيقتل منا آلاف الرجال والنساء والأطفال، وسيتشرّد من يبقى على قيد الحياة في الفيافي والقفار، وذلك إذا كابرتم وأصررتم على متابعة القتال... لقد طلب مني المسؤولون الفرنسيون أن أكون وسيطاً بينهم وبينكم لوقف العمليات الحربية وعدم التعرض للجيش الزاحف، بقيادة الجنرال (ميشو Michaud) إلى مدينة السويداء، وقد قطعوا لي عهداً بحسن معاملتكم، والعفو عن جميع الثوار دون قيد أو شرط ما عدا سلطان الذي اشترطوا علينا أن يغادر البلاد ريثما يصدر قرار خاص بالعفو عنه بعد مدة قصيرة... كونوا على ثقة بأنني لم أقبل بهذه الوساطة إلاّ بدافع الغيرة عليكم والحرص على سلامتكم وسلامة عيالكم وأرزاقكم... فاقبلوا نصيحتي والزموا الهدوء والسكينة. وعودوا إلى قراكم وأعمالكم آمنين مطمئنين».
وفي هذه اللحظة بالذات، حضر إلى المكان نفسه المجاهد مصطفى أبو الحسنين وقدّم لي رسالة من بعض زعماء حوران، بينهم: هولو الترك الحريري وفارس الأحمد الزعبي، يقولون فيها إنهم لا يستطيعون في الوقت الحاضر المشاركة بالثورة ويطلبون منا عدم الاقتراب من حوران، أو القيام بأي نشاط حربي في أراضيهم.
طويت الرسالة ووضعتها في جيبي، غير أن أنظار الجمهور ظلت متجهة نحوي، وكأنها تستفسر مني بإلحاح عما جاء فيها. وقد أنقذ الموقف سليمان نصار، بذكائه وسرعة بديهته، إذ تقدم مني وقال لي: «اسمح يا باشا، بالرسالة حتى أقرأها على الناس!.» فناولته إياها، وارتجل نصاً من عنده، وهو ينظر إليها، وقال فيه: «حضرة ابن عمنا سلطان باشا الأطرش الأفخم.. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نعلمكم أننا رهن إشارتكم في سبيل خدمة الوطن، ونحن بانتظار العلم منكم لنلتحق بجيشكم، والله يحفظكم وينصركم على الأعداء».
ثم تلا من ذاكرته أسماء زعماء حوران المعروفين، أثار بقراءته هذه حماسة الجمهور، وما أن عاد الهدوء إليه من جديد، حتى التفت نحو عمي عبد الغفار، وقلت له على مسمع الجميع: إننا لم نعلن هذه الثورة كي نلزم الهدوء والسكينة، ونرضخ لشروط الفرنسيين بإدخال جيوشهم الجرارة إلى بلادنا دون مقاومة، أو نأخذ بمناورتهم وأساليبهم الماكرة في تفريق شمل ثوارنا، وإعادتهم إلى قراهم ليسوموهم العذاب من جديد، ويضعوهم تحت نير الذل والاستعباد. إننا أعلنا الثورة لنصون الكرامة والعرض، ونحقق بحد السيف استقلال البلاد! وفيما كان المكان يضج بالنخوات والأهازيج الحربية وإطلاق العيارات النارية، اقتربت من عمي عبد الغفار، وقلت له: إنك أحوج إلى رؤية أفراد أسرتك الذين ينتظرون عودتك بفارغ الصبر في قنوات، من أن تفتح باب المفاوضة مع الفرنسيين الذين غدروا بك وبغيرك من زعماء البلاد، ونفوك وإياهم ظلماً إلى أقاصي المناطق والبلدان! وعلى إثر ذلك اختليت بأعيان الثوار، واتخذنا على جناح السرعة وبالإجماع القرارات التالية:


1 ـ متابعة الثورة، والوقوف في وجه الجيش الفرنسي الزاحف لمنعه من الوصول إلى السويداء.
2 ـ اعتبار القوات المحاربة التي حضرت الاجتماع، نواة الجيش الوطني المنوي إعداده وتنظيمه في المستقبل القريب.
3 ـ إتباع تقاليد الجبل الحربية المتوارثة، بجعل بيرق كل قرية وحدة حربية كاملة، يؤمن كل محارب فيها بنفسه وعلى نفقته الخاصة، سلاحه وذخيرته ومئونته، وأن تكون قيادة هذه الوحدة مرتبطة مباشرة بقيادة الثورة العامة.
4 ـ فتح جبهة حربية، تمتد على جانبي طريق ازرع ـ السويداء، من قرية تعاره، ثم قرّاصة شمالاً حتى قريتي الدور وسميع جنوباً.


ولم تلبث قواتنا أن انتشرت في المواقع المعيّنة لها، على خط متعرّج يبلغ طوله ثمانية كيلومترات تقريباً. أما مقر القيادة فقد اتخذته في قلب الجبهة إلى الشمال من (رقة القصر) وسارعت في إرسال قوة استطلاعية لتكشف لنا حركة العدو، وتقدّر عدد قواته المتقدمة، وأنواع الأسلحة ومعداته. فقامت هذه القوة بواجبها خير قيام وعادت إلينا ليلاً، بعد أن تسلّلت إلى (خربة الحريري) واقتربت من مخيمات الحملة هناك، واشتبكت مع بعض دورياتها عدة مرات، وفي صبيحة اليوم التالي، 31 تموز، كانت بداية المعركة الأولى بيننا وبين الحملة الفرنسية، إذ اصطدم جناحنا الأيمن بطلائعها المتقدّمة في هذه الجهة، وتمكن من اقتناص بعض ضباطها وجنودها في الدقائق الأولى من الاصطدام. ثم انقضّ عليها فرساننا والتحموا معها واستمر القتال العنيف دائراً بينهم وبيننا حتى وصلت في تقهقرها، ضحوة النهار، إلى مشارف بصر الحرير.
وفي اليوم الأول من شهر آب عام 1925م أخذت قوات العدو تتقدّم بسرعة كبيرة فطلبت من مواقعنا عدم إطلاق النار عليها إلا بعد وصول آلياتها المدرعة إلى مفرق طريق الدور ـ قراصة، وعندئذ حمي وطيس المعركة، فراحت الطائرات تحوم فوقنا وتقذفنا بقنابلها الكبيرة التي زلزلت الأرض تحت أقدامنا، وجعلت الذعر يدب في خيولنا، وكانت قذائف مدفعية الميدان تتناثر بغزارة على خطوطنا، فتحيل متاريسنا ركاماً. وفي الوقت نفسه، بدأت خيالة العدو تضغط بقوة هائلة على جناحنا الأيسر، جنوبي قرية الدور، بعد أن جعلت من (تل الخروف) منطلقاً لغارتها الكاسحة، وهنا لعب التهور، وعدم الحذر من خطط العدو الماكرة، لعبتهما الخطيرة في استنزاف قوتنا وذخيرة أملنا في النصر، فقتل عدد كبير من فرساننا المشهورين، بينهم:
حمد البربور وأخوه أجود، وابن عمه أحمد عابد عامر (شهبا)، خطار أبو فخر (ريمة اللحف)، علي بلان (قيصما)، حمود الشاهين، إبراهيم العاقل، هاني الهادي (أم الرمان)، حمد حامد (عرى)، منصور علي نعيم، داود فارس قطيش، فارس عجاج الجرماني (السويداء)، محمد رعد (ذبين)، خليل وفارس علبة (اسعنا)، سليمان برق رزق (عرمان).
 وممن أصيبوا بجروح بليغة: الشيخ صالح طربيه (السويداء)، زيد عامر (بثينة)، عبد الله الشعراني (الدور)، فضل الله وهائل البربور (أم الرمان)، تركي الأطرش (عنز)، عطية اللحام (عرى)، صلاح محمد نصر، خليل إبراهيم، دابر نصر وهاني أحمد عبد الخالق (نجران)، وقد جرت الواقعة على النحو التالي:
كان العدو قد نشر في السهل المنبسط، شرقي (تل الخروف) وجنوبه، عدداً كبيراً من القناصة ورماة الرشاشات، الذين تواروا خلف متاريس حصينة مموّهة. في حين شدّت فصائل من خيالته واكتسحت مواقع خيالتنا ولاحقتهم حتى قرية سميع، ثم ارتدت على أعقابها، بعد أن تكبدت بعض الخسائر، ولكنها اتجهت في تراجعها، وحسب خطتها المرسومة نحو مواقع القناصة ومرابض الرشاشات، حيث وقع فرساننا في هجومهم المعاكس بشرك تلك الكمائن، وانصبّ عليهم الرصاص كانصباب المطر، فسقط منهم نحو ثلاثين شهيداً دفعة واحدة!..
وبذلك ضعفت المقاومة في جناحنا الأيسر، وشلّت الحركة الهجومية فيه، مما أتاح الفرصة لقيادة الحملة أن تستغل انتصارها هذا بسرعة فائقة لفتح ثغرة واسعة في قلب جبهتنا، ينفذ منها الجزء الأكبر من قواتها، ويتابع طريقه باتجاه السويداء، وقد بدأت هذه العملية بنيران المدفعية الثقيلة، التي مهدت للمدرعات أن تقوم بدورها الفعال، ثم أخذت كوكبات الخيالة، وسرايا المشاة، وعربات النقل تتقدّم في الثغرة المفتوحة ، كان الوقت ظهراً، وأشعة الشمس المحرقة تلفح وجوهنا وتعرّق أجسادنا المنهكة، وقنابل الطائرات وقذائف المدفعية والآليات المدرعة تتساقط علينا من كل جانب، بحيث أحسسنا وكأن النهار قد أمسى ظلاماً دامساً من دخان البارود المتفجّر والغبار المتكاثف في جو المعركة. حتى أن الصخور البازلتية المنتشرة في المنطقة، والتي اتخذنا في ثناياها مراكزنا الدفاعية، قد أخذت تتحوّل إلى شظايا متطايرة كالعصافير المذعورة... وكيفما توجه الإنسان يقع نظره على قتيل مجند يسبح بدمه، وجريح يستصرخ أهل المروءة لإسعافه ونقله!..
ومع أن هذه الجولة قد انتهت لصالح العدو، والألم كان يعتصر فؤادي على شهداء وقعة «تل الخروف» المروعة عامة، وعلى حمد البربور، الفارس العلم والمجاهد الأنوف الأكبر والرفيق المخلص، خاصة، فإنني لم أدع اليأس يتسرّب إلى نفسي، والحزن يسيطر على تفكيري، بل رحت أتشاور مع بعض الرفاق لوضع خطة جديدة نعرقل بها مسيرة الحملة، ونحول دون تحقيق أهدافها في الوصول إلى مدينة السويداء.
لم يكن بوسعنا، بعد أن أصاب جبهتنا ذلك التصدع والانهيار، إلاّ أن نترك الجناح الأيمن من قواتنا متمركزاً في مواقعه الأولى، على أمل أن يشد أزره ببقية القرى المجاورة، وفي مقدمتها نجران، وأن ننسحب بالقوات الباقية أمام الجيش الفرنسي الجرار، لنتخذ لأنفسنا مواقع جديدة نحمي بها طريق السويداء، ريثما تصل النجدات من هذه المدينة، ومن قرى أخرى كثيرة لم يشترك معظم سكانها بالثورة بعد. وفي حين ظل قسم من تلك القوات المتقهقرة يرابط بجوار قرى السجن والمجدل وريمة حازم وغيرها، تراجع معي نحو مائة من فرساننا الأشداء، وعند وصولنا إلى نبع المزرعة، التقينا بحسين مرشد، ومعه نفر من المجاهدين، فأفاد بأن طريق السويداء ـ المزرعة قد سدها بعض أهالي السويداء، وأنهم أقسموا على عدم التزحزح من مواقعهم ولو مرّت آليات الجيش الفرنسي على أجسادهم!..
ثم انتقلنا إلى «الفارعة» نرابط بها ونراقب حركة العدو عن كثب، بعد أن أخذت طلائعه تقترب من نبع المزرعة. فانتقلنا إلى قرية سليم حيث وجدنا من أهاليها كل تكريم وحسن استقبال.
وفيما كنا جالسين، مساءً في مضافة يوسف مسعود، وإذا بنا نسمع جلبة خيول تدخل القرية، وصيحات فرسان تقول: البشرى لنا!.. البشرى لنا!.. فهب الناس من حولنا، وخرجوا لاستقصاء الخبر واستقبال القادمين، وبعد لحظات أُدخل علينا فرحان زيتونه، وعبطان النجم، وفارس فرج، وهم بحالة تعب وانفعال شديدين، فأخبرونا أن أهالي المقرن الغربي، ومن بضيافتهم من المجاهدين، قد قاموا بهجوم موفق على مؤخرة الجيش الفرنسي، فذبحوا عدداً من ضباطها وجنودها، واستولوا على جميع أسلحتها وصناديق ذخائرها ودوابها، وعطلوا عربات النقل، وأحرقوا بعض السيارات، وعادوا إلى قراهم سالمين غانمين!».
تفاءلنا بالخير، وازداد يقيننا بأن هنالك قدرة ربّانية أعانت ثوارنا على إنزال تلك الضربة القاصمة بالعدو، بعد أن عاد أكثرهم إلى قراهم يائسين من كل أمل بالوقوف في وجه الحملة ومنعها من تحقيق أهدافها.
أوفدت من فوري، الشيخ إبراهيم جربوع إلى السويداء، والشيخ سعيد طربيه إلى قنوات. كما أرسلت المفازيع (الرسل) إلى القرى ليذيعوا الخبر السار على الأهالي ويستنفروا المقاتلين من جديد، ويضربوا لهم موعداً بالمزرعة في الحال!..
في حين بقيت أنتظر أخباراً مفصلة عن ذلك الهجوم من إخواننا بالمقرن الغربي.
فاصطدموا بمجموعة يتكوّن منها آخر القسم الأول من الجيش الفرنسي المتقدم، وقتلوا عشر من جنودها، وغنموا بعض البغال المحملة بالأسلحة والذخائر، وعادوا وهم يردّدون أهازيج النصر إلى قراصة.
ولما رأى الثوار الآخرون ما رأوه من فعلهم، انقضوا بدورهم على مجموعات أخرى من فصائل الجند، وكان في مقدمتهم فرسان قرية نجران الأشاوس، فخاضوا معركة عنيفة حققوا فيها نصراً مؤزراً وغنموا كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد الحربي والبغال، وساقوا معهم عشرات الأسرى، ولم تلبث القرى الأخرى كسميع والدور وعراقة وكفر اللحف ومجد الهنيدات وريمة الفخور والثعلة والسجن وتعاره والدويره وحرّان ولبّين وجرين وداما وصميد ومجادل والخرسا ووقم، أن قام بعض رجالها بهجمات مماثلة موفقة.
أما في السويداء، فعلى الرغم مما كان سكانها يتحملونه من أخطار المدفعية الثقيلة المصوّبة على أحيائهم وبيوتهم باستمرار من القلعة المحاصرة، وما كان المرابطون منهم حول القلعة يتكبدونه من خسائر بالأرواح من المدفعية نفسها، أو من الغارات الجوية المتواصلة عليهم، فقد هبّوا هبة رجل واحد لدفع الخطر الجديد المحدّق بمدينتهم، ودون أن يكون لمظاهر الهزيمة التي مُنينا بها في المقرن الغربي أقل تأثير على معنوياتهم.
غير أن العدد الأكبر من أهالي السويداء، كان قد خرج بعياله إلى بعض القرى المجاورة كقنوات ومفعله، ومن هناك توجهوا إلى المزرعة في الليلة ذاتها، إثر وصول رسلنا إليهم من قرية سليم، يسير في مقدمتهم حملة بيرقهم من آل علم الدين. وما أن بلغوا مشارف المزرعة حتى أخذوا يتأهبون لكبس العدو ومنازلته قبل أن يطلع عليهم النهار.
أما نحن فقد تحركنا من قرية سليم عند بزوغ الفجر يوم الاثنين 2 آب عام 1925م، وحين وصلنا إلى المزرعة وجدنا الحملة الفرنسية في حالة تأهب واستعداد لتستأنف زحفها نحو مدينة السويداء، وفي الوقت نفسه رأينا بيرق السويداء وقد وقف مواجهة مع أرتال الحملة المستنفرة في سهل المزرعة وعلى الطرق العام، أي في الجهة الشرقية ـ الجنوبية من مكان انتشاره. وكانت بعض آلياته المدرعة تناوش المتقدمين من مشاته بنيرانها عند مسيل (الفارة)، ثم أخذت بيارق
القرى تصل تباعاً وتتوزع في جبهة طويلة منحنية حول المزرعة، تمتد من قرية السجن غرباً حتى الفارغة شرقاً ووادي ولغا في الجنوب الغربي، حيث كانت بعض فصائل خيلنا متجمعة وقبل أن تطلع الشمس بدأ بيرق السويداء هجمته الصاعقة الأولى، فاخترق خطوط العدو من جبهة القلعة القديمة والتحم مع مشاته وبعض مصفحاته التحاماً مريعاً!..
ثم أخذت البيارق الأخرى تضع ثقلها تباعاً وتوسع الثغرة في ميدان المعركة، وتنازل الجنود في خنادقهم ومرابض رشاشاتهم بالسلاح الأبيض في أكثر الحالات.
كانت الآليات المدرعة تجول وتصول أمام الخنادق والاستحكامات، التي باشر العدو بحفرها إثر وصوله إلى المزرعة في الليلة الفائتة، وتمطرنا بقذائفها ورصاص رشاشاتها بصورة متواصلة. كما ازداد نشاط المدفعية التي كانت تقذفنا بحممها من مرابضها الواقعة خلف خطوط العدو، وكذلك الطائرات التسع التي بدأ نشاطها على التحويم المنخفض بسبب الالتحام الشامل مع جنود الحملة، ولكنها كانت تستأنفه بسرعة فائقة كلما شاهدت مجموعة من الثوار قادمة إلى ميدان المعركة، كنت أسمع من مكاني وأنا أراقب سير المعركة، أصوات النخوة الهادرة تنطلق من حناجر المجاهدين، فتقول:
«وين راحوا النشامى!.. عليهم!.. اليوم ولا كل يوم!..».
وكان الشبان يتربصون للمدرعات ويكمنون لها، حتى إذا اقتربوا منها قلبوها بأكتافهم وقتلوا سدنتها بخناجرهم ومسدساتهم، وأحرقوها، وعند الضحى، أوعزت إلى فريق كبير من فرساننا بتغذية الهجوم، فانقضوا على جناح العدو الأيمن، وفتكوا بجنوده. وقد لعب بيرق الثعلة دوراً عظيماً في تلك الغارة الموفقة.
وهنا لاحت لحظة الهجوم على قلب العدو ومراكز دفاعه الرئيسية، فاندفعت قوتنا الضاربة من جديد، وهي بيرق السويداء، إلى ميدان المعمعة، يساندها في الميمنة مشاة البيارق وفي الميسرة فرسانها، فتصدعت بهجماتها الكاسحة جبهة العدو، وتمزقت صفوفه وشلّت حركته، ودبّت الفوضى في مختلف مواقعه، وبذلك فقدت قيادته كل أمل بأخذ المبادرة من أيدينا في تسيير دفة المعركة، كما عجزت عن تنفيذ أية خطة للتراجع المنتظم..
ولم تجد أيضاً البطولة الخارقة التي كان ضباط الحملة يبدونها، وهم ينطلقون من مكان إلى آخر، ببديهتهم الخاصة، لتشديد عزائم الجند وحثهم على الثبات في مواقعهم، وبخاصة عندما حاول بعضهم الصمود في مرابض الرشاشات والمدافع التي قُتل رماتها وسدنتها وظلوا يرموننا بنيرانهم الكثيفة حتى تناولتهم يد الفناء وهم في أماكنهم ثابتون. أو لما نازل فريق من فرسانهم فرساننا بالسلاح الأبيض، وأبدوا من المهارة في الفروسية وأساليب الكر والفر، ما يدعو إلى الدهشة ويثير الإعجاب... ولكنهم وجدوا أمامهم، في الوقت نفسه ـ وباعتراف المنصفين منهم ـ أبطالاً لا يشق لهم غبار.
لقد اندحرت الحملة الفرنسية اندحاراً كاملاً، وتبعثرت جثث قتلاها وهياكل مدرعاتها، وآلياتها المختلفة وأسلحتها الثقيلة بين السهول الممتدة من المزرعة شرقاً حتى قرية الدور ومشارف بصر الحرير غرباً. واستطاع العديد من ضباطها وجنودها أن يفلتوا من الأسر، على الرغم من ملاحقة خيالتنا لهم، فوصلت آخر أفواجهم إلى محطة ازرع مساء ذلك اليوم وهي خائرة القوى، شاردة الذهن والتفكير.
لقد اختلقت الروايات وتناقضت في ذكر عدد الجنود الذين كانت حملة «ميشو» تتألف منهم، اختلافها وتناقضها في ذكر عوامل هزيمتها وأسباب اندحارها. ومع أنني لم أشغل بالي قط لأعرف الحقيقة المجرّدة عن هذا الموضوع، فلا أرى مانعاً من أن أذكر ما كان يؤكد لنا بعض الأسرى من ضباط الحملة نفسها الذين قالوا بأنها تتألف من ثلاثة عشر ألف جندي، بحسب المعلومات التي كانت تنتقل إليهم من رؤسائهم، أو من خلال مشاهداتهم الشخصية لأرتالها المتحركة من دمشق إلى ازرع.
وإذا كنا لم نتمكن من إحصاء عدد قتلى هذه الحملة وجرحاها بالضبط وقد تركنا ذلك في ذمّة التاريخ أيضاً، فإنه من الواجب أن نثبت هنا الحقيقة عما يخصنا ويدخل في نطاق معرفتنا، أي عدد الذين استشهدوا من ثوارنا وكتبوا في سفر أمتنا وتاريخ نضالها أروع صفحات الجهاد وأبقاها على الدهر، وهو البالغ 341 شهيداً عدا الجرحى والذين أصيبوا بعاهات دائمة. وذلك من مجموع أولئك المجاهدين الأشاوس الذين خاضوا هذه المعركة، وعددهم لا يتجاوز أربعة آلاف مقاتل من مختلف قرى الجبل.
أما ما خلفته هذه الحملة في ميدان المعركة، من حطام الآليات المدرعة والمدافع، والرشاشات والبنادق وصناديق الذخيرة والخيول والبغال وعربات النقل والخيام والأمتعة والمواد الغذائية... فكانت مقاديره كبيرة غنمها ثوارنا البواسل، فعوضتهم جزءاً يسيراً مما خسروه في هذه الثورة، وساعدتهم على مواصلة الجهاد في معارك أخرى أشد ضراوة، داخل الجبل وخارجه.
وبعد أن انتقلنا إلى السويداء، وجمعنا مقرّنا فيها، لتشديد الحصار على القلعة، أحضر بعض المجاهدين المدافع الخمس السليمة التي كسبوها بالمزرعة ووضعوها في خدمة الثورة. ولكننا وجدنا أن أجهزة التسديد والتحريك مفقودة منها، مما اضطرنا إلى البحث عنها وجمعها من بيوت الثوار الذين عثروا عليها وخبئوها في بيوتهم، وما أن وفق بعض المجاهدين إلى ذلك قمنا بتوزيع تلك المدافع حول المدينة لضرب القلعة، ومحاولة فتح ثغرات واسعة فيها ينفذ منها الثوار إلى داخلها، فوضعنا المدفع الكبير وهو من عيار 105 مم عند كرم (الأعوج) في المدخل الغربي للمدينة، والثاني وهو من عيار 75 مم في (الهرولة) على طريق السويداء ـ قنوات القديم، والثالث وهو من عيار 25 مم كان مشاة العدو يستعملونهما بالمزرعة، فقد وضعناهما في مواقع (الخريج) شرقي المدينة.
وكان بعض المجاهدين من هواة إصلاح الأسلحة النارية كالبنادق والمسدسات أو ممن كان يدير محركات المطاحن ويعمل على صيانتها، يتولون عملية الإطلاق. وبسبب النقص الكبير في الذخيرة، كان على هؤلاء أن يجمعوا قذائف المدفعية الفارغة من ميدان المعركة، ليعملوا على حشوها بالبارود المستخرج من قنابل الطائرات غير المنفجرة، وبقطع الحديد والرصاص ذات الأحجام المختلفة، يتم ذلك ليلاً أو في أوقات الصباح، لتبدأ عملية الإطلاق بعد الظهر، في غالب
الأحيان، أي عندما تتوقف الغارات الجوية اليومية على مواقع المجاهدين، ويعاونهم في ذلك أيضاً أسرى المغاربة الذين انضموا إلى الثورة.
وقبل أن تبدأ عملية قصف القلعة بهذه المدافع، كانت السلطة الفرنسية قد أرسلت وفداً مؤلفاً من: الكابتن رينو، يوسف الشدياق وعبد الله النجار، من أجل طلب الهدنة وفتح باب المفاوضات للصلح، فوافقتُ على إخراج النساء والأطفال من القلعة، وكذلك الغرباء الذين لجؤوا إليها مع الفرنسيين، وعددهم يقرب من الخمسين فتّم ذلك بإشراف عبد الله النجار الذي أحضر السيارات إلى القلعة لنقلهم إلى دمشق، تحت حراسة رجالنا داخل حدود الجبل.
ومع أن القصف كان يحدث بعض التهديم في سور القلعة، ويشعل بعض الحرائق في داخلها، كما أسكت مدفعين من المدافع المصوّبة على المدينة، مما أربك الفرنسيين المحاصرين وبعث الحماسة والعزة في نفوس الثوار والمواطنين، فإن الخنادق والاستحكامات التي أمر (توما مارتان) بحفرها وإقامتها داخل القلعة، وأكياس الرمل التي كانت توضع عند الثغرات المفتوحة بسرعة فائقة، والإمدادات التي كانت تصلهم يومياً بواسطة الطائرات، والغارات الجوية المتواصلة على رجالنا المرابطين حولها... كل ذلك قد حال دون نجاحنا في الاستيلاء عليها، بالإضافة إلى أن قصف رجالنا لها لم يكن مركّزاً وفعّالاً بسبب نقص الخبرة في التسديد، وعدم صلاحية الذخيرة في بعض الأحيان، وتبذير الصالح منها دون طائل ونفاذه.
كم كنت أتمنى يومئذٍ، وقد انتشرت أخبار معركتي الكفر والمزرعة في جميع أرجاء الوطن أن يسارع إلينا أصحاب الخبرة والاختصاص في الأسلحة الثقيلة، ممن كانت لنا بهم معرفة بدمشق أيام الحكم الفيصلي، لكي يمدّوا لنا يد العون ويؤازرونا على استثمار تلك الانتصارات الرائعة التي حققناها على الجيوش الفرنسية النظامية بوسائلنا البدائية وإمكاناتنا المادية القليلة. ذلك ما جعلني أقرر، من فوري، تكليف محمد كيوان بحمل رسالة مستعجلة إلى دمشق وقعها معي محمد عز الدين وجاد الله الأطرش، خاطبنا فيها نسيب البكري والدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وغيرهما من زعماء البلاد وقادة الحركة الوطنية، شارحين لهم أوضاعنا الدقيقة الراهنة، ومذكّرين إياهم باتصالاتنا السابقة بهم، كي يتخذوا التدابير اللازمة للمشاركة بالثورة الوطنية، والنزول إلى ميدان الجهاد في أسرع وقت ممكن.
الهدنة ومفاوضات الصلح الفاشلة:
لقد تأكد لنا، فيما بعد، أن كارثة الحملة الفرنسية في المزرعة لم تقلق الدوائر الفرنسية العليا في الشرق فحسب، وإنما شغلت بال الحكومة الفرنسية نفسها، ونوقش موضوعها في البرلمان الفرنسي، واهتمت بها كبريات الصحف الباريسية ونشرت أخبارها وعلّقت عليها. كما تناولتها بالتعليق أيضاً بعض الصحف الأوربية في لندن وروما وبرلين. وبذلك سُلطت الأضواء على شخصية الجنرال سراي، المفوض السامي في بيروت، وغدت تصرفاته وإجراءاته التعسفية في
الجبل معرّضة لحملة انتقادية كبيرة. وقد قيل لنا أيضاً، أن الجنرال ميشو استدعي إلى باريس للتحقيق معه، وأن الجنرال (غاملان Gamelin) قد حلّ محله في القيادة الفرنسية لجيش الشرق.
ومع أن الفرنسيين قد بذلوا جهوداً كبيرة كيلا تتسرّب أخبار هزيمتهم في معركة المزرعة إلى بقية مناطق حكمهم في سورية ولبنان، وحاولوا أن يفرضوا رقابة شديدة على الصحافة ووكالات الأنباء ليمنعوا تسربها إلى الخارج أيضاً، فإن هذه الأخبار قد تناقلتها الركبان، وانتشرت بسرعة مذهلة في مختلف المناطق والبلدان العربية المجاورة. كما انتقلت عبر البحار إلى الأمريكيتين، لتثير في نفوس مغتربينا في كندا والولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل والأرجتين أسمى
عواطف الإنسان العربي، وأنبل مشاعره الوطنية والقومية، لذلك كله لم تجد السلطة الفرنسية ما يغنيها عن طلب الهدنة ووقف القتال في الجبل تمهيداً لصلح دائم تعقده معنا، قبل أن يستجيب لنداء ثورتنا زعماء الحركة الوطنية بدمشق، ويفسح أمامنا مجال نشرها في بقية أرجاء الوطن.
حتى إن فرنسا اضطرت بفعل هذه الهزائم إلى عزل مفوضيها الساميين وضباطها العسكريين في سورية وتعيين البدائل عنهم، كما حصل مثلاً مع المفـوض السامـي (سراي) بعـد مهاجمة الثـوار لقصر العظـم بدمشق، فعينت المسيو (دي جوفنيل) وقصفت دمشق بالطيران لمدة 24ساعة متواصلة كما أرسلت فرنسا أحد أبرز قياديها الجنرال (غاملان) بعد تزايد قوة الثوار وانتصاراتهم».

- اعتبر الفرنسيون بلسان الجنرال اندريا إن معركة المزرعة كارثة ولم يدخلوا في تفصيلاتها والحقيقة أن انتصار المزرعة كان انتصار حربي في تاريخ سورية الحديث إذ لا نجد فيه يوماً أدعى للاعتزاز والخلود من يوم المزرعة ولا نجد نكبة حربية تقض مضجع الاستعمار مثل تلك النكبة، كانت المزرعة العامل الرئيسي في إثارة الهمم كلما فترت، لا في الثورة فحسب بل في تاريخ سورية الحديث، وكانت أيضاً المورد الرئيسي لتسليح الثوار بالأسلحة النارية الخفيفة وبعض المدافع الجبلية، ومن أبرز نتائج هذه المعركة امتداد روح الثورة إلى المناطق السورية الأخرى.
شعر الفرنسيون بالخطر بعد المزرعة وتخوفوا من امتدادها خارج الجبل، فأسرعوا لطلب الصلح فقبل الموحدون مبدئياً حيث وصل الكابتن (رينو) في الثامن من آب على رأس وفد مفاوض يصاحبه (عبد الله النجار) مدير المعارف السابق والترجمان (يوسف الشدياق) وقد استمرت المفاوضات مع بعض الثوار والأحرار أسبوعاً كاملاً ، فتم الاتفاق على تبادل الأسرى وعودة المنفيين في الحسكة، ثم انتقل مركز المفاوضة إلى قرية (عرى) في حين كان سلطان وبعض الزعماء في قرية (المجيمر) يرفضون مقابلة رينو، ويديرون المفاوضات بشكل غير مباشر وقد قبل كلا المفاوضين بمطالبيهما، ومن أهم ما جاء في شروط الثوار البنود الآتية:

   1- رفض مجيء كارابيه.
   2- إعادة الحكم الأهلي.
   3- أن لا تتجاوز الحامية الفرنسية في الجبل المائتان نفر.
   4- إبقاء السلاح بأيدي الموحدين.
   5- مراعاة عوائد الموحدون وتقاليدهم.
   6- حرية القول والاجتماع وعدم منع الموحدين عن الوحدة مع دمشق إذا شاؤوا.
   7- العفو العام وعدم التحقيق في حوادث الثورة.

أما مطالب الفرنسيين من الثوار الموحدين فقد انحصرت في ثلاثة نقاط:

            1- تقديم غرامة خمسة آلاف ليرة ذهبية لحفظ شرف فرنسة بين الدول.
            2- تقديم خمسة آلاف بندقية.
            3- إعادة المنهوبات والغنائم العسكرية والحربية.

الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد - ص 138- 139

كانت المفاوضات قد وصلت مرحلتها الخيرة عندما وصل وفد دمشقي مؤلف من (توفيق الحلبي وأسعد البكري وزكي الدروبي) فتكلموا باسم حزب الشعب واظهروا استعداد دمشق وباقي المناطق السورية للمساهمة في الثورة ضد الفرنسيين فاتفق سلطان مع الوفد على الزحف إلى دمشق بعد أسبوع بشرط أن تثور دمشق، وبعد انتصار بني معروف في المزرعة، رأوا ضرورة إيجاد واجهة سياسية للثورة، فلذلك قاموا بالاتصال مع أحرار دمشق وعلى رأسهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، لتلازم النضال السياسي والمسلح، وعندما أبدى الدكتور عبد الرحمن الشهبندر رغبته بالتعاون، جاء وفد من الجبل للاجتماع به في دمشق ومنهم (عبد الغفار ونسيب ومتعب الأطرش والشيخ يوسف العيسمي) واقسموا أقدس الإيمان على الدفاع عن استقلال بلادهم حتى النفس الأخير، وفي 22 آب 1925م وصل الشهبندر إلى جبل الموحدين حيث اجتمع بسلطان باشا بقرية (كفر اللحف) وقد حضر الاجتماع (جميل مردم) و(سعد الدين المؤيد) والقائم مقام (يحي حياتي)، أنهى الاجتماع أعماله بإعلان القرارات التالية:


 1- متابعة الثورة حتى تنال البلاد استقلالها التام.
 2- تسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة.
 3- تولية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر إدارة الشؤون السياسية للثورة، وتسميته ناطقاً رسمياً لها.
 4- تشكيل أركان قيادة الثورة، من السادة : حمد عامر، فضل الله هنيدي، محمد عز الدين، عقلة القطامي، سليمان نصار، حسين مرشد، يوسف العيسمي، علي عبيد، قاسم أبو خير وعلي الملحم.
 5- الدعوة إلى حمل السلاح وانضمام السوريون إلى جيش الثورة، في بيان عام تذيعه قيادة الثورة على الشعب السوري وهو بيان (إلى السلاح).

وفي 23 آب 1925م انتقل مركز الثورة إلى المقرن الشمالي من الجبل وبدأ زحف الثوار نحو دمشق.

الحملة باتجاه دمشق: قام سلطان بتسيير حملة باتجاه دمشق لطرد الفرنسيين بناءاً على اتفاق مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر لتوسيع نطاق الثورة لتشمل سورية كلها، وقد تقدمت هذه الحملة بتاريخ 24 آب على محور الصورة الصغيرة - براق - دير علي - الكسوة ، ولكنها دفعت خسائر كبيرة ثمناً لتقدمها في أرض مكشوفة، وبسبب الهجوم العنيف بالقنابل والرشاشات الذي شنته عليها أربعة أسراب من الطائرات الفرنسية ألقت حمولتها فوقها (7000كغ) من القنابل و(9000 طلقة) خلال 65 ساعة، وقرب الكسوة اصطدمت قوة المجاهدين بحملة فرنسية تقدمت من دمشق بقيادة الكولونيل (ماسييه) فدارت بينهما معركة عنيفة انتصر فيها المجاهدون في بدايتها لكن تلاحق ورود النجدات الفرنسية ودعم الطيران لها أجبرهم على الانسحاب بعد ان الحقوا بالفرنسيين خسائر ضخمة بالرجال والعتاد. كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 120

حملة غاملان ومعركـة المسيفـرة 17أيلول عام 1925م: بعد الانتصار الساحق لثوار بني معروف في معركة المزرعة حاول الفرنسيون إجراء مفاوضات مع الثوار للاستفادة من الوقت ولتعزيز قدراتهم القتالية، فكان لهم ذلك ففي 11/9/1925م وصل إلى مرفأ بيروت آلاف الجنود، وتم جمع الجيوش من عدة مراكز وحشدها في منطقة دمشق، وكلفت فرنسا أحد مشاهير ضباطها في الحرب العالمية الأولى وهو الجنرال (غاملان) بقيادتها، وقد بلغ تعداد هذه الحملة أكثر من سبعة آلاف جندي، يرأس وحداتهم كل من الكولونيل (اندريا) للمشاة، والكولونيل (ماسييه) للخيالة، و(غلوك) للمدفعية، والكولونيل (كورنيه) لقافلة الإمداد، بالإضافة لسرب طيران مقره ازرع وآخر مقره درعا، وكانت مهمة غاملان القضاء على الثورة وتحرير الحامية العسكرية الفرنسية المحاصرة في قلعة السويداء الشامخة.
وفي 14 أيلول تم اختيار قرية المسيفرة في حوران مركزا لتجمع القوات الغازية باعتبارها قريبة من جبل العرب، وكلف الكولونيل (أندريا Andrea) بالمهمة فتمركز مع 1500 عسكري فيها، حيث كانت القوات الفرنسية متحصنة في قلب القرية المطلة على السهول المحيطة بها، وفي المعاقل المنتشرة على أطرافها ومداخلها الرئيسية، تحميها الخنادق وخطوط الأسلاك الشائكة العريضة، والآليات المدرعة، ومرابض الرشاشات الكبيرة ومدافع الميدان الثقيلة، إضافة إلى دعم عدد من الطائرات.. بينما كانت قيادة الثورة تواصل اجتماعاتها واستعدادها لمواصلة القتال بقيادة سلطان باشا الأطرش ومعه عدد من القادة أمثال (الأمير عادل ارسلان والدكتور عبد الرحمن الشهبندر ونزيه مؤيد العظم ورئيس أركان الثورة اللواء فؤاد سليم) وكانوا آنذاك في قرية (سهوة البلاطة) بتاريخ 16/9/1925م أي بعد وصول التعزيزات الفرنسية بخمسة أيام، وإثناء الاجتماع اطل أحد الفرسان من قرية (الثعلة) يحمل رسالة من المجاهد (محمد عز الدين الحلبي) قائد إحدى مجموعات الثورة، فاستلم الرسالة اللواء فؤاد سليم وبعد أن قرأها طواها ووضعها بجيبه، فتعالت أصوات الثوار لمعرفة محتوى الرسالة وبعد إلحاح طلب سلطان باشا الأطرش من قائد أركانه قراءة الرسالة على الملأ مهما كان محتواها، وكان محتوى الرسالة يقول إن الثوار عازمين على مهاجمة الفرنسيين في المسيفرة قبل أن تكتمل الحشود والتحصينات الفرنسية.
فانتقل جميع الثوار إلى قرية (كناكر) لتدارس الرسالة وكان رأي القائد العام ورئيس أركانه عدم المهاجمة لأن القرية تقع في منطقة سهلية مكشوفة يصعب التخفي فيها، غير أن حماسة الحرب والخوف على الثوار الذين انطلقوا للحرب طغت على الرأي السديد وأصبحت المعركة على بعد ساعات ولا مفر منها، وبعد منتصف الليل انطلق الثوار إلى محيط المسيفرة وكان دليلهم المجاهد (مصطفى أبو الحسنين) من حوران... وعندما اقتربوا من خطوط العدو انطلقت رصاصة من بندقية احد الثوار فشقت صمت الليل ونبهت الفرنسيين من غفلتهم الذين أطلقوا القنابل المضيئة فانكشف الثوار وأخذت الرشاشات تحصدهم في السهل الفسيح فسقط عدد كبير من الثوار قبل أن يتمكنوا من التمركز ولكن الخيالة اقتحموا خطوط العدو الأولى وتمركزوا داخل القرية فيما تراجع الآخرون إلى محيط قرية (أم ولد).
 في الصباح تقدم سلطان بمن معه إلى (تلول خليف) ليغيروا منها على القوات القادمة على طريق الكرك ويخففوا الضغط المتزايد على الثوار الملتحمين مع العدو داخل قرية المسيفرة، فسيطروا على طريق الكرك ـ المسيفرة، وعلى طريق درعا ـ المسيفرة، ثمّ شنّت الخيالة بقيادة (علي ذوقان الأطرش) هجوماً كبيراً على جناح العدو الأيسر بقصد تدمير مواقعه الرئيسية، وإخماد نيران أسلحته الثقيلة من هذه الجهة ولكنها فوجئت بسيل من القذائف الجوية التي تساقطت
عليها من أسراب الطائرات الحربية، فتراجعت بعد أن تكبدت خسائر كبيرة بالأرواح، وفي داخل القرية استبسل الثوار البالغ عددهم 100 ثائر واستولوا على كميات كبيرة من السلاح والذخيرة وعلى إسطبلات الخيول وكان منهم (حمزة درويش ومحمد عز الدين الحلبي وهايل الجباعي) والشيخ (سلمان حمزة) الذي استشهد مع أبنائه الأربعة وهم يحملون بيرق العائلة، وبسبب وصول تعزيزات فرنسية جديدة من (خربة غزالة) وتحت جنح الليل انسحب الثوار من القرية لتنتهي معركة المسيفرة ليل 17/9/1925م بعد أن استشهد 250 ثائراً فيها وكل واحد منهم أسطورة بحد ذاتها سوف تبقى محفورة في قلوب الأجيال القادمة إلى الأبد، كما أن العدو أعدم ثلاثة من وجهاء القرية من آل الزعبي وهم (الحاج حمد الموسى وعبد الحليم المصطفى والشيخ محمد الزعبي) (
يذكر سلامة عبيد في كتابه الثورة السورية الكبرى ص 144 - 145 أن عدد الشهداء بلغ أكثر من 270 رجلاً من أشد الرجال أي بمعدل سبع خسارتهم في سنتين) بينما كان عدد القتلى الفرنسيين نصف هذا العدد.
- يقول الجنرال كاربييه في مذكراته عن معركة المسيفرة: «صليت للسماء صلاة مخلصة لأجل هذا الشعب، الشديد الشجاعة، الشديد الحماسة، والذي سأبقى متعلقا به بكل أوتار قلبي والذي أتمنى أن أموت بين أهله يوماً».‏
- يذكر (دوتي) في كتابه الفرقة الجهنمية ما يلي: «..... مرت برهة دون أن يحدث شيء، كان قد حدث قبل هذا الإنذار إنذاراً في الليلة السابقة ولكنه كان إنذاراً كاذباً سببه أحد جنود الفرقة وهو برتغالي صغير شبه مجنون .... خيل إلينا إن ما حدث هذه الساعة هو شبيه بما حدث أمس، ورحنا نشتم أجداد ذلك الذي أيقظنا، ولكن سرعان ما رأيت وميضاً يسطع في الظلام وأحسست برصاصة تئز فوق رأسي، وفي الحال اشتعل الظلام بنيران البنادق، وراحت جحافل الطلقات النارية تغنّي فوق رؤوسنا، أو تئز على جدران متاريسنا بأصوات شبيهة بمواء القطط.
أطلق ضوء كشاف، تكشفّ لنا على نوره إن المنحدر الذي يواجهنا والمسيل الفاصل بيننا وبين ذلك المنحدر وفي كل جهة من الأرض المحيطة بنا كلها تعج بأشباح تزحف بصمت، وما كاد الضوء يفضح سرّهم حتى انفجروا بالهتافات المدوية الأشد شراسة وترويعاً.....».
الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد - ص 147
- ومن عوامل تورط الثوار في المسيفرة إنهم ظنوا إن القوة التي تمركزت في المسيفرة هي كل الحملة المتوجهة نحو الجبل ولذا كانت فكرة مباغتتها والإجهاز عليها واحداً من تلك العوامل، ونشوة النصر في الكفر والمزرعة ما تزال في الأذهان والنفوس توقد الحماسة، وان قرار الهجوم كان جماعياً رغم اعتراض سلطان باشا عليه كونه في أرض مكشوفة، أما سبب هزيمة الثوار فيعود إلى فقدانهم لعنصر المباغتة بسبب التحرك نهاراً وفي سهل مكشوف ولمعرفة الفرنسيين بأمرهم عن طريق أجهزة الإشارة والجواسيس ولأن مقدمة الحملة كانت من الفرقة الأجنبية التي كان شعارها قاتلاً أو مقتول فلذلك كانوا يقاتلون بشراسة، لقد كانت المسيفرة فشلاً ولكنها تظل المعركة الأشد شراسة والأقوى تعبيراً عن البطولة والإقدام.
 
معركة تل الحديد وفك الحصار عن السويداء: بعد انتصار الفرنسيين في المسيفرة تقدموا في صباح 23/9/1925م نحو السويداء لاحتلالها وفك الحصار عن قلعتها، ولما وصلت إلى (تل الحديد) في اليوم التالي تصدى لها 1500 من الثوار وتمكنوا من إيقافها، لكن الدبابات والخيالة التفوا ورائهم فاضطروا للتراجع، وفي 24/9 تمكن الجنرال غاملان من دخول السويداء وإنقاذ حاميتها المحاصرة، بعد أن خسر الفرنسيين خمسة ضباط وثلاثة وأربعين جندي بين قتيل وجريح.

معركة رساس وعرى والمجيمر: أراد غاملان احتلال القرى الجنوبية بعد السويداء فتقدم بحملته من (رساس) التي واجه بها مقاومة عنيفة واستشهد فيها كل من (توفيق الغوطاني - حمد بن قاسم الأطرش - سعيد ناصيف - سليم جريرة - شريف سلام - عقيل الجودة) ثم لاقى غاملان مقاومة في المجيمر مما جعله يوجه مدفعيته إليها فأخلاها المجاهدون، فتابع الفرنسيون تقدمهم إلى عرى حيث استسلم الأمير حمد الأطرش بعد مقاومة ضارية في 4 تشرين الأول 1925م، وتمكن الفرنسيون من أحراق بيت زعيم المسيحيين في الجبل المجاهد عقلة القطامي في قرية (خربا) الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد - ص 160، وفي ليلة 3-4/10/1925م تعرضت الحملة لهجمتين من قبل 700 من الثوار استطاع الفرنسيين صدها بصعوبة، بعدها توجه الفرنسيون إلى موقع المزرعة لدفن قتلاهم الذين سقطوا في أوائل آب، فتعقبهم الثوار يناوشوهم وخصوصاً بالقرب من تل الحديد.
وفي 4/10/1925م نشبت الثورة في حماه فطلب المندوب السامي سراي من غاملان بإرسال نصف الحملة للقضاء عليها فرفض غاملان تقسيمها وأصر على بقائها أو إرسالها كلها إلى حماه فتم إرسالها إلى حماه فخفف الثوار في حماه عن ثوار الجبل، وعملت فرنسا في أوائل 1926م بعهد المندوب السامي الجديد (هنري دي جوفينيل) على مفاوضة الثوار في الجبل الذين تنفسوا الصعداء للإعداد للمعارك جديدة ضد الفرنسيين.
اجتمع الثوار في دار (شبيب القنطار) في قرية (داما) في 25 شباط 1926م وقرروا في نهاية الاجتماع توجيه الرسالة التالية إلى المندوب السامي في بيروت:
لفخامة المسيو هنري دي جوفنيل                       السويداء في 28 شباط سنة 926
جوابا على كتاب فخامتكم المرسل في 27 كانون الثاني سنة 1926 بواسطة الأمير أمين ارسلان عقد اجتماع كبير يمثل الجبل في 25 الجاري في قرية داما وقد تقرر بالإجماع في هذا الاجتماع عرض المطالب التالية :


أولا : الاعتراف باستقلال الأراضي السورية التام مع حق التمثيل في الخارجي ودخول عصبة الأمم.
ثانيا : إعلان الوحدة بين جميع البلاد السورية وإعادة جبل لبنان الكبير للحالة التي كان عليه قبل الحرب.
ثالثا : توقيع معاهدة مع فرنسا لمدة معينة تضمن المصالح الافرنسية دون أن تمس بالسيادة الوطنية السورية، في جمعية الأمم التي تتضمن تنفيذها.
رابعا : سحب الجيوش الافرنسية إلى السواحل وانتخاب مجلس تأسيسي حر يمثل جميع مناطق سوريا لأجل إنشاء حكومة وطنية حرة.
خامسا : أن سحب الجيوش الافرنسية نهائيا من سوريا يتم بعد اجتماع المجلس التأسيسي.
سادسا: إصدار عفو عام.


الإمضاء الشعب الدرزي

 كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 126

وقد أجاب المندوب السامي هنري دي جوفنيل بالكتاب التالي :
إن المفوض السامي يعلمكم أن الكتاب المؤرخ في 28 شباط والموقع من الشعب الدرزي يجعل كل مفاوضة مباشرة أو غير مباشرة مع العصاة مستحيلة ولن يقبل بعد الآن سوى خضوعهم بدون قيد ولا شرط.

حملة الجنرال اندريا وإعادة احتلال الجبل: وعندما فشلت المفاوضات، قام سكان الجبل بترحيل العجزة والنساء والأطفال إلى منطقة تلال (الصفا) الواقعة في شمالي شرقي الجبل وإلى داخل الأراضي الأردنية، أما كل من هو قادر على حمل السلاح والبالغ عددهم 5000 مجاهد فإنهم انتظروا أوامر قيادة الثورة.
أما دي جوفينيل فأمر قائد منطقة دمشق بالتوجه إلى الجبل على رأس حملة تضم عشرة آلاف جندي ووصلوا إلى منطقة درعا عبر سكة القطار التي كانت تتعرض للتفجير كل يوم بين 11 و21 نيسان وبعدة مناطق، قسم الجنرال اندريا جنده إلى قسمين، القسم الأول تمركز في ازرع بقيادته والقسم الثاني تمركز في خربة غزالة بقيادة الكولونيل (بيشو كلو)، انطلق الفرنسيون باتجاه الجبل في 22 نيسان 1926م، وقد قامت ثلاثة أسراب من الطائرات بقصف تمهيدي لمناطق الثوار بالقنابل والرشاشات، فاسقط الثوار طائرتين وإصابة الثالثة، بينما سار القسم الأول من الجيش الفرنسي على محور ازرع - غزالة - المسيفرة - أم ولد - السويداء حتى وصل اندريا إلى تل الحديد دون مقاومة،
كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي  ص 127 بينما القسم الثاني سار على محور بصرى - عرى - السويداء الذي لاقى مقاومة في قرية عرى يوم 24 نيسان
كلفته عدد كبير من القتلى والجرحى، ثم تعرض لهجوم الثوار منطلقين من قرية رساس فاستطاعوا اختراق الجيش والوصول إلى الذخيرة، فدب الذعر في صفوف الفرنسيين فطلب الكولونيل بيشو كلو المساعدة من اندريا، ولم يتمكن الفرنسيون من احتلال السويداء إلا في مساء يوم 25 نيسان بعد أن خسروا 84 قتيلاً منهم تسعة ضباط و310 جريحاً بينهم أربعة عشر ضابطاً.

بعد احتلال السويداء قام غاملان بزيارتها في 13 آذار وأمر الجنرال اندريا بمواصلة احتلال بقية مناطق الجبل وخصوصاً منطقة شهبا، التي اتخذها المجاهد عز الدين الحلبي مركزاً لنشاطه ضد الفرنسيين، فسير قائد منطقة السويداء حملة باتجاه شهبا يوم 15 أيار حوت سبعة أفواج مشاة وكتيبة خيالة وبطاريتي مدفعية، فتمكنت من احتلال شهبا بعد مقاومة عنيفة من الثوار وخاصة حول قريتي (عتيل) و(سليم) .
وفي 1 حزيران 1926م توجه الجنرال اندريا على رأس حملة لاحتلال صلخد عن طريق بصرى - ذبين، لكنها واجهت مقاومة ضارية في اليوم التالي بمعركة (أم الرمان) حيث تكبد الفرنسيون سبعة قتلى وأربعين جريحاً، بينما تكبد الثوار 122 بين شهيد وجريح، كما تعرض الفرنسيون لمقاومة بالقرب من (عنز) يوم 3/6/1926م في إثناء مسيرهم إلى صلخد، وفي اليوم التالي استطاع اندريا احتلال المرتفعات المحيطة بصلخد وهي تل (المشكوك) وتل (الكبير) ودخول صلخد، بعد أن انسحب الثوار منها تاركين وراءهم 47 شهيداً.     

وفي3 آب توجهت حملة من السويداء نحو (اللجاة) الواقعة إلى الشمال الغربي من الجبل، متبعة طريق المزرعة - السجن - نجران - عاهرة، فاصطدمت بالثوار عند قرية (المجدل) ثم في قرية نجران بقيادة عز الدين الحلبي، فاسقطوا طائرة وعدد من الفرنسيين، ثم قام الجنرال أندريا في24/8/1926بالزحف على وادي اللوا الممتد بين شهبا وبراق،  فاجتاح عدة قرى هناك، وكان هدف الفرنسيين تطويق الثوار في منطقتي الصَوَرة الكبيرة والصغيرة، فاندلعت معارك شرسة بينهما، تكبّد فيها الفرنسيون خسائر جسيمة بالأرواح والعتاد، ومن جملتها طائرة حربية وثلاث مصفحات وعدد من الضباط والجنود، وأُرغم الجنرال أندريا على الابتعاد عن هذه المنطقة.

الاجتماع الفرانكو - بريطاني : اتصل الفرنسيون بالبريطانيين المتواجدون في فلسطين وشرقي الأردن، لعقد اجتماع بينهما بغية التعاون للقضاء على الثورة، وبسبب اتخاذ الثوار الأردن ملجأ لهم، فعقد الاجتماع في درعا يوم 23 أيلول 1926م وقد اتخذ فيه المقررات التالية:

  1- منع الرجال القادرين على حمل السلاح من البقاء في منطقة الأزرق.
  2- إن الموحدين الملتجئين لشرق الأردن يخيرون بين نقلهم إلى معسكرات تجميع في فلسطين أو إعادتهم إلى الجبل.
  3- تحدد إقامة الشيخ إسماعيل الحريري من حوران بقرية السلط الأردنية .
  4- يمنع كل من سلطان باشا الأطرش والدكتور عبد الرحمن الشهبندر من الدخول إلى الأراضي الفلسطينية أو الأردنية.

وكانت هذه المقررات سبباً في إضعاف الثورة، وبداية نهايتها رغم استمرارها عاماً كاملاً، حيث عملت انكلترا على التضييق على الثوار في مدينة الأزرق، عندما أنذرتهم بوجوب مغادرة المدينة بفترة أربعة عشرة يوماً، ولما تمنعوا عن الجلاء أمر الكابتن (كروب) قائد المنطقة بقطع المياه عنهم.

متابعة المقاومة ضد الفرنسيين: في أواخر شهر آب 1926م سيرت حامية صلخد حملة باتجاه قرية (عرمان) فتصدى لها الثوار بين قريتي عرمان و(ملح) وكبدوها 20 قتيلاً وأسروا 30 جندي بينهم ضابط، وفي 5 أيلول سيرت حملة ثانية إلى المقرن الشرقي اصطدمت في 16 أيلول مع ثلاثمائة مجاهد في معركة عنيفة قتل فيها 8 فرنسيين بينهم ضابط بينما استشهد 32 من الثوار وأسر منهم أربع مجاهدين.
وفي 21 تشرين الأول 1926م سيرت فرنسا حملة كبيرة من السويداء  باتجاه أرض اللجاة، بقيادة الكولونيل (كاليه) مهمتها طرد الثوار من قرى ( الصورة الصغيرة - الرضيمة - لاهثة ) وبنفس الفترة كانت الطائرات تقصف أواسط اللجاة وخاصة ناحية (داما) وقد تمكن الثوار من إسقاط إحداها في قرية (أم الزيتون) وفي 25 تشرين الأول تمكنت الحملة من احتلال الصورة الصغيرة والرضيمة بعد أن منيت بسبعة قتلى و22 جريحاً بينهم ضابطان، وفي اليوم التالي سقطت قرية (لاهثة) بيد الفرنسيين، وفي 31 من نفس الشهر حاول الفرنسيون احتلال قرية (صميد) لكنهم واجهوا مقاومة ضارية استمرت حتى 8 تشرين الثاني1926م حيث تكبد الفرنسيون أربع طائرات وخمسة وثلاثون قتيل أحدهم ضابط وتسع وثلاثون جريحاً، لكنهم في 10 تشرين الثاني تمكنوا من احتلال قرية صميد، وفي 3/1/1927م توجهت حملة بقيادة (لوينيه) إلى شرقي الجبل، لمقاتلة الثوار الذين كانوا بإمرة المجاهد (على الأطرش) فاصطدموا معهم في معركة (أبو زريق) ومعركة (تل اللوز) فسقط 35 شهيداً من الثوار، بينما قتل أربعة من الفرنسيين، كما جرت معركة (الرشيدة) حيث أسقط الثوار إحدى الطائرات المُغيرة وقاموا بالاستيلاء على كميات وفيرة من السلاح والذخيرة، وكان الفرنسيون قد أظهروا شراسة كبيرة في هذه المعركة.
وفي شهر شباط 1927م وضع الجنرال (فاليه) خطة للقضاء على الثوار في منطقة اللجاة وذلك بتطويقها وفرض حصار عليها قبل مهاجمتها، وبدأ بتنفيذ الخطة في 29 آذار، وفي اليوم التالي أصطدم الثوار مع الفرنسيين في قرية (وقم) ، وبعد عدة مناوشات استشهد 47 من الثوار و80 جريحاً من أصل 400 مجاهد، بينما خسر الفرنسيون 15 قتيل و22 جريح وثماني طائرات.
ومن المعارك التي خاضها الثوار أيضا: معركة خربة صوخر بين بكه وأم الرمان ومعركة قيصما ومعركة الكفر الثانية في السهل المجاور لقرية حبران ومعركة مجادل ومعركة أم الزيتون.

نهاية الثورة في الجبل: أبلغت بريطانيا كل من المجاهدين سلطان باشا وعبد الرحمن الشهبندر، بضرورة مغادرة الأراضي الأردنية، بينما أوعزت للأهالي في الأزرق بالعودة إلى الجبل أو إلى أي مكان يريدونه، وكان الفرنسيون قد حكموا على سلطان الأطرش بالإعدام، فلجأ سلطان مع رفاقه إلى (وادي السرحان)      

اللجوء إلى وادي السرحان من أواخر شهر تموز 1927م إلى 17 أيار 1937م: كان الفرنسيون قد عرضوا على سلطان باشا الأطرش الاستقلال بالجبل وتشكيل دولة مستقلة يكون هو زعيمها مقابل وقف الثورة لكنه رفض بشدة مصراً على الوحدة الوطنية السورية، فقامت السلطات الفرنسية بتعذيب السكان الذين تعاونوا مع الثوار، وعند انتهاء ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب العربي، شدّد الفرنسيون الخناق على الثوار وجلبوا حملات متتالية ونجدات جديدة، فاضطر سلطان للنزوح إلى (الأزرق) في إمارة شرقي الأردن مع عائلته وحوالي ثلاث مائة من الثوار وعائلاتهم حيث اتخذها مركز لعملياته العسكرية ضد الفرنسيين، إلا أن الإنكليز بعد اجتماع الفرانكو - بريطاني لم يمكّنهم من المكوث وذلك بمحاصرة مصادر المياه حيث بقي الثوار أكثر من 36 ساعة دون ماء، فنزح سلطان الأطرش والثوار مع عائلاتهم الذين بلغ تعدادهم 1360 شخصاً كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 135 إلى وادي السرحان في شمال المملكة العربية السعودية لرفضهم الاستسلام .
منطقة وادي السرحان ترتفع عن سطح البحر ما بين 200 - 450 متراً، وهي منطقة صحراوية وأعشابها صحراوية، وعلى منخفض كبير تحتله صحراء رملية تكثر فيها الكثبان، وتنحدر إليها أودية من المرتفعات المجاورة، ولا يوجد مراعٍ أو أعلاف لخيول الثوار بالإضافة للحرارة الشديدة التي لا تحتملها الخيولوصفه الأمير(عادل ارسلان) بأبيات شعر قال فيها:
في مهمة قفر كأن السما ******* لم تروه بالقطر من عهد نوح
إنسانه ضب وأشجار شيح ******** وأصوات التغني فيه فحيح
ينوح فيه الذئب مستوحشاً ******** واحسرتا للذئب فيما ينوح
 وديرة النبك في السعودية أيضاً عبارة عن صحراء مهجورة تتخللها جبال صوانية وكثبان رملية لا تخلو أرضها من بعض أنواع الشجر البرية كالطرفاء وهو دخان  تدمع العيون له وهو بطيء الاشتعال، والرتم وهو نبات ذو رائحة  زكية، أما الأمصع فله مواسم معينة فيه حبوب حمراء كحبة الحمص، وطعم حلو، كان الثوار يسمونه عنب الصحراء.
وأبرز ما في النبك هو عين (جوخة) المحاطة بخمس نخلات باسقات، وهي عبارة عن نبع ماء بعمق مترين إلى ثلاثة أمتار مطوية جدرانه بالحجارة بقطر لا يقل عن ثلاثة أمتار تستفيد منها عشائر البدو النازحة أو المتنقلة بين الأردن والسعودية في مواسم التشريق والتغريب لإرواء أغنامها وإبلها، وقد خلت الأرض من أنواع الأعشاب والنباتات التي اعتاد الثوار أكلها في أرض الجبل (كالعكوب، والرشاد، والهندباء، والخس البري، والكراث... إلخ).
المناظر الصحراوية ثابتة تقريباً صيفاً وشتاءً فالحرارة شديدة وكثيراً ما كان الثوار يرشون الماء في أرض الخيام، ويجلسون فوق الماء بثيابهم للتبريد بعض الشيء.
أما الأطفال الرضع فكانت نسبة الوفيات بينهم مرتفعة لعدة أسباب منها سوء التغذية للكبار وللصغار، وأطفال الصحراء لم يعرفوا من أنواع الثمار والفواكه إلا عنقود العنب ورأس البطيخ قبل النزوح إلى وادي السرحان، وهناك عرفوا عنقود البلح فقط، أما التفاح والكرز والخوخ والموز.... إلخ، لم يعرفوه إلا في الصور الموجودة بالكتب لم يذوقوا طعمه لا حلواً ولا مراً، هكذا عاش أطفال الصحراء جميعاً محرومين معذبين جياعاً، وهكذا عاش المجاهدون وعائلاتهم مدة اثنتي عشرة سنة.

- أرسل سلطان الأطرش رسله إلى الملك عبد العزيز بن سعود وكذلك إلى الملك فيصل الأول ثم إلى مصر وفلسطين للتأكيد على وحدة الكفاح العربي ووحدة الهدف، وطلب العون لمتابعة الثورة، ولكن اتفاق مصالح الحلفاء وضعف المقاومة العربية أدّيا إلى وقف العمليات القتالية، إلا أن سلطان ورفاقه المجاهدين بقوا أوفياء لمبادئهم وظلّوا على إيمانهم الراسخ بالوحدة العربية ووحدة البلاد السورية ووجوب استقلال وطنهم استقلالاً تاماً، وآمنوا أن العرب سينتزعون
حريتهم مهما طال الكفاح وغلت التضحيات. ولم تنقطع صلات سلطان الأطرش بالحركة الوطنية داخل سوريا طيلة مدة منفاه الذي دام أكثر من عشر سنوات، وقد دعا سلطان الأطرش إلى عقد مؤتمر في وادي السرحان برئاسته في 25/10/1929م، سمّي بمؤتمر الصحراء وذلك لبحث القضية السورية. وقد حضر هذا المؤتمر في وادي السرحان معظم الوطنيين السوريين واللبنانيين، ثم خرج المؤتمر بمقررات هامة كان لها الأثر الكبير على ما جرى في ما بعد وعلى المفاوضات والمسار الذي اتخذته لتحقيق الاستقلال التام ، فكان هذا المنفى تعبيراً عن رفض الاستسلام للمستعمِر وعن مقاومة الثوار لوجوده على أرض وطنهم الغالي، من هنا كان سلطان الأطرش يعتبر أن الثورة السورية الكبرى دامت 12 سنة من 1925م إلى 1937م وكانت الثمرة في النهاية الاستقلال الغالي .
 وقد عبّر زيد الأطرش بقصيدة من شعره الشعبي عن هذا الرفض وعن استمرار المقاومة، إذ قال:
يا ديرتي، ما لك علينا لوم                  لا تعتبي لومك على مَن خان
حنّا روينا سيوفنا من القوم              ما نرخصك، مثل الردى بأثمان
لا بدّ ما تذهب ليالي الشوم                    وتعتز صربه كايدها سلطان
وإن ما تعدّل حقنا المهضوم                     يا ديرتي ما حنّا لِك سكان
 ثم سمح للثوار بالعودة إلى الكرك وعمان في الأردن عام 1932م، فعادوا على أمل العودة إلى ساحات الوغى في وقت قريب، وقد رفض سلطان تسليم سلاحه إلى المستعمِر وحُكِم عليه بالإعدام وبقي تحت الإقامة الجبرية في الكرك، وبعد معاهدة 1936م أصدرت فرنسا عفواً شاملاً عن كل المجاهدين وعاد الثوار واستُقبِل سلطان ورفاقه في دمشق في 18أيار سنة 1937 باحتفالات شعبية تاريخية، واعتُبِرَ قائداً تاريخياً للأمة ومُنِح أرفع الأوسمة الوطنية، وتغنّى الشعراء والكتّاب ببطولاته وأعماله، ومن أبرز هؤلاء الشعراء الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري، حين كتب في المهجر قصيدته الشهيرة (سلطان باشا الأطرش والتنك) -
التنك هي الدبابة- بعد معركة تل الحديد عام 1922م، فقال:
خففتَ لنجدة العاني سريعاً ********** غضوباً لو رآكَ الليث ريعا
وحولكَ من بني معروف جمع ******* بهم وبدونهم تغني الجموعا
وثبتَ إلى سنام التنك وثباً **************عجيباً علّم النسر الوقوعا
فخرّ الجند فوق التنك صرعى ******** وخرّ التنك تحتهم صريعا
فيالكَ غارة لو لم تُذِعْها ******************** أعادينا لكذّبنا المذيعا
ويا لكَ أطرشاً لما دعينا **************** لثأر كنتَ أسمَعَنا جميعا

 

الثورة في إقليم البلان

في منتصف عام 1925م تعرضت قرية (مجدل شمس) في سفح جبل الشيخ، لكثير من أعمال العنف التي قام بها جنود المستعمر الفرنسي، فطلب أهالي مجدل شمس والقرى المجاورة لها النجدة من سلطان باشا، وأرسلوا له كتباً محروقة أطرافها مع رسولين دلالة على الخطر الذي يهددهم، ولما وصلت هذه الكتب إلى سلطان باشا أمر بعقد المجلس الحربي للثورة والذي حضره كلاً من :(زيد الأطرش - فؤاد سليم - سعيد العاص - حسني عباس صخر - نزيه المؤيد العظم) فقرر المجلس وجوب إرسال النجدة بأسرع وقت، فتم تكليف المجاهد زيد ذوقان الأطرش لقيادة هذه الحملة  أواخر تشرين الأول من عام 1925م، وكانت تسير ليلاً وتكمن نهاراً تفادياً لضربات طيران العدو،كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 105 ، وقد  مرّ الثوار بوادي اللوى والمرج، ثم ببعض قرى الغوطة الشرقية والجنوبية الغربية، حيث كان يتطوع لمرافقتها أدلاء يجنبونها مخاطر الطرق ونقاط المراقبة بمطار المزة، أو في المراكز العسكرية الواقعة في المنطقة الممتدة جنوبي دمشق (ثكنة القدم)، والأراضي التابعة لبلدة قطنا في وادي العجم، لكن الفرنسيين عرفوا بها وقاموا بضربها في قرية (الخيارة) فاستشهد مجاهدين وعدد من أهالي القرية، وحين وصلت حملة الثوار إلى مشارف (عرنة) هاجمت مفرزة كانت تعسكر على مقربة منها فغنمت عدد من الأسلحة وزعت على الثوار الغير مسلحين، بعد ذلك تمركزت في مجدل شمس  وعندما علم الفرنسيون قرروا مهاجمتهم لكنهم هزموا رغم تدخل الطائرات التي سقطت إحداها، وبعد أن اطمئنوا على مجدل شمس أرسلوا حملة من المجاهدين بقيادة (حمزة الدرويش) لاستعادة قرى لبنان المجاورة من الفرنسيين، فحررت (حاصبيا) من دون خسائر في 9 تشرين الثاني 1925م لكن في قرية (كوكبا) استشهد أربع ثوار منهم وبعد ذلك استطاع الثوار تحرير (برغز ومرجعيون) مما أجبر الفرنسيين على التراجع إلى النبطية بعد سقوط حوالي 300 قتيل منهم، بعد ذلك توجه الثوار لتحرير بلدة (راشيا) ليستطيعوا بعد ذلك التقدم في (البقاع) والسيطرة على (رياق) وقطع خط الحديدي بين دمشق وبيروت فوصلوا راشيا في 20/11/1925م، وكانت الحامية الفرنسية بقيادة الكابتن (جرانجيه) قد حصنت قلعة راشيا بالأسلاك الشائكة وهدمت البيوت من حولها على مسافة مائة متر لتسهيل مراقبة المنطقة المحيطة بالقلعة، استطاع الثوار قتل معظم أفراد مفارز الكشافة الفرنسية، وانقسم المجاهدون إلى أربع فرق مقاتلة، لتأخذ كل واحدة منها مركزها المناسب حول القلعة قبل أن تبدأ الهجوم عليها في اليوم التالي، وبسبب انكشاف الأرض على بعد 500م حول القلعة فقد استشهد عدد كبير من الثوار، لذلك قرروا حفر نفق عبر جدران البيوت المحيطة بالقلعة، التي يفصلها عن برج القلعة خط الأسلاك الشائكة من الجهة الجنوبية الغربية، ومن هذا النفق تقدموا من البرج ونصبوا سلالم صعد عليها المجاهدون في 22/11/1925م فقتلوا بقنابلهم حامية البرج وبذلك فتحوا الطريق أمام الثوار إلى داخل القلعة، الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد ص 164 إلا إن الطائرات ووصول نجدتين فرنسيتي من (رياق) و(جزين) جعل الثوار ينسحبون من القلعة من جهة الشرق بعد استشهاد مائة من الثوار في معركة قلعة راشيا، واستشهاد المئات من أبناء الإقليم، وإبادة نصف الحامية الفرنسية.
وفي شباط 1926م قام الثوار بأعمال مجيدة في سهل البقاع حين قاموا بإمرة المجاهد (شكيب وهاب) بمهاجمة قوة فرنسية بقيادة الكولونيل (فيرن) على مقربة من قرية (الحلوة) وقد خسر الفرنسيون 21قتيلاً و26 جريحاً، وبين 15 - 18 شباط حاول الفرنسيون الانتقام بقيادة (لفور) عندما اصطدموا بالثوار في قرية (البيره) فنتج عن استشهاد 60 مجاهد وبالمثل من الفرنسيين، فسيرت فرنسا في أواخر شباط ثلاثة جيوش للقضاء على عصبة شكيب وهاب في البقاع، ولم تستطع إلا في 2 آذار 1926م، كما سيرت ثلاثة جيوش على مجدل شمس أواخر آذار 1926م ، الجيش الأول كان بقيادة الكولونيل (كليمان جرانكور) كلف بمهاجمة البلدة من الغرب انطلاقاً من مرجعيون، أما الجيش الثاني فكلف بمهاجمة البلدة من جهة الشرق والجنوب ينطلق من (خان أرنبة)، أما الجيش الثالث فكلف بمهاجمة البلدة من الشرق والشمال، وقد أطبقت الجيوش الثلاثة في نيسان على مجدل شمس بالطائرات والمدفعية والرشاشات وجنود المشاة، وكانت خسائر الفرنسيين في معركة مجدل شمس الثانية 36 قتيلاً و38 جريحاً، بينما استشهد من الثوار 131 من مختلف قرى الإقليم
.
وبعد ذلك سكنت المعارك باستثناء معركة (جباتا الخشب) عندما علم الفرنسيين بوجود (أحمد مريود) وبعض رفاقه فيها، فسيروا قوة ضخمة أدت لاستشهاد 41 من الثوار على رأسهم المجاهد البطل أحمد مريود، وكان آخر المعارك في هذه المنطقة هي معركة (بير رشبا)


حملة الشمـال والثورة في حماه
 
ولما نشبت الثورة الثانية في جبل الموحدين عام 1925م، وجدت الجمعية السرية بقيادة فوزي القاوقجي ضرورة القيام بالثورة في حماه للتخفيف عن جبل العرب، فبعثت أثنين من أعضائها هما (منير الريس) و (مظهر السباعي) إلى جبل الموحدين حاملين مشروع موقع من وجهاء حماه نص على ما يلي:

   آ- يتعهد الحمويون بإشعال نار الثورة ضد الفرنسيين في أوائل شهر تشرين الأول عام1925م للتخفيف عن إخوانهم في الجبل .
   ب- يتعد الدروز مقابل ذلك :

             1- بان لا يعقدوا صلحاً منفرداً مع الفرنسيين، بل يجب أن يشمل الصلح مجموع الأراضي السورية.
             2- بأن يخرجوا بنطاق الثورة من الجبل إلى الغوطة لمناوشة الفرنسيين هناك بعد أن يخف الضغط عنهم.
             3- بان يرسلوا مالا يقل عن مائة فارس يتمركزون على مقربة من مدينة حمص لنقل الثورة إليها، بعد نجاح ثورة حماه.

وقد سلم مشروع الاتفاق للدكتور عبد الرحمن الشهبندر المنسق السياسي للثورة السورية الكبرى، فقام هذا بعرضه فوراً على القائد العام سلطان باشا في قرية رساس حيث تمت الموافقة على المشروع وسلمه للسيد (نزيه المؤيد العظم) لنقله إلى دمشق وتسليمه للدكتور (خالد الخطيب) أحد وجوه حماه الذي أوصله لقائد الثورة في حماه فوزي القاوقجي.
وقد نفذ سلطان باشا الأطرش فعلاً مطالب الحمويين، حيث أرسل سرية من فرسان بني معروف بقيادة الضابط (حسني عباس صخر) إلى قرية (عين القصب) الواقعة بين حمص والقريتين لدعم الثورة في المنطقة الوسطى.
كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 92
 وجال القاوقجي بين عشائر حماه لحضّهم على الثورة، وأخيرا تقرر إعلان الثورة في مساء 2 تشرين الأول 1925م، وقد اختير هذا اليوم لأنه يصادف عيد المولد النبوي والمسلمون يجتمعون حتى منتصف الليل، فيبعد عن الثوار المجتمعين الشبهة من قبل الفرنسيين، وبدأت الثورة بتكليف القاوقجي للملازم الشهيد (عبد القادر مليشو) باصطحاب عدد من المجاهدين لقطع خطوط الهاتف، وإرسال (مصطفى عاشور) للمرابطة في بستان (العدسة) في هماه مقابل الثكنة للإجهاز على اي قوة تخرج منها، كما أرسل عدد من المجاهدين إلى منزل المجاهد (عبد الرحمن المط) الملاصق لثكنة فرنسية، للمرابطة به، إلا إن مصطفى العاشور لم يرابط في بستان العدسة لأنه كان مكشوفاً فانتقل لبستان (أم الحسن) ويبعد300م وقد أخبر (عثمان الحوراني) القاوقجي بعدم وجود رجال مصطفى في بستان العدسة فضن أنهم قد قبض عليهم فغير خطة المعركة التي أجلت ليومين آخرين، فأعطى ذلك فرصة للفرنسيين للتنبه لقطع خطوط الهاتف فأدركوا إن الثورة في حماه ستندلع فتم أخذ الحيطة والحذر، وفي 24/10/1925م عقد اجتماع للثوار في قرية (كاسون الجبل) شرقي حماه، وتم الاتفاق على مهاجمة مدينة حماه، وبالفعل فقد تم مهاجمتها مساء هذا اليوم وسيطر الثوار على المخافر وحاصروا دار الحكومة وطالبوا الحامية بالاستسلام وبسبب عدم التجاوب دارت معركة عنيفة انتهت بعد منتصف الليل بدخول الثوار لدار الحكومة، وفي اليوم التالي حاولت قوة من الفرنسيين الإغارة على المجاهدين الذين تصدوا لها مدة نصف ساعة قرب (جسر السرايا) فصب الفرنسيين غضبهم بقص المدينة بالطائرات والمدافع فسقط عدد كبير من الأبرياء اغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن، ووصلت نجدات جديدة للفرنسيين مما أدى لسقوط المدينة بيدهم بعد أن خسروا 400 قتيل مقابل استشهاد 35 من الثوار على رأسهم الدكتور (صالح قنباز) فلجأ قسم من الثوار إلى البادية وآخرون إلى العراق هرباً من بطش الفرنسيين، بينما القاوقجي التجأ إلى قبيلة الموالي يحضهم على المقاومة فحدثت معركة (المعرة) التي دامت أربع ساعات سقط فيها سبعين قتيلاً من الفرنسيين بينهم ثلاثة ضباط، بينما الثوار قدموا ستة شهداء على رأسهم شيخ عشيرة الموالي الأمير (إبراهيم باشا) ومن المعرة تجمّع بعض المجاهدين من القلمون وحمص وحماة وجبل العرب (80 مجاهداً) برئاسة فوزي القاوقجي، فتوجه على رأس حملته الصغيرة إلى جبل الزاوية، وكان الهدف هو مد نار الثورة إلى مناطق الشمال، لكن رجال الاستخبارات الفرنسية تعرضوا لهم مما أدى لانتقال القاوقجي جنوباً ليتابع جهاده في منطقة القلمون والغوطة.

أحداث الثورة في حمص والقصير والهرمل والقلمون

أعلن بعض مجاهدي القلمون برئاسة (خالد النفوري) و(جمعة سوسق) الثورة على الفرنسيين أواخر عام 1925م، فحققوا أعمالاً بطولية في منطقة (النبك) السورية، ثم تقدموا شمالاً إلى جهات (حسيا) حيث اتصلوا بالسيد (حسن رعد) أحد وجهاء (القصير) لتكون بلدته مركز ثورة ضد الفرنسيين فلبى طلبهم بكل ترحيب، فتعرضت القصير لقصف الطيران الفرنسي، ولما وصلت أخبار هذه المعركة إلى مجاهدي حمص قاموا فوراً بالالتحاق بمنطقة القصير والانضمام إلى المجاهدين فيها، فقاموا مجتمعين بنسف جسر (الحارون) الحديدي جنوب القصير أوائل 1926م مما أدى لتدهور قطار فرنسي كان محملاً بالجنود، وعندما أرسلت فرنسا حملة تعزيز تم هزمها في معركة (الزراعة) وقتل سبعة عشر من الفرنسيين واستشهد اثنان وتم إعدام عشرة من الثوار على جسر الحارون دون محاكمة، بعد ذلك انتقل الثوار إلى شرق حمص حيث كمنوا عند (الفرقلس) للقوات الفرنسية عدة مرات.
وفي آذار 1926م تجمع الثوار في منطقة النبك بقيادة فوزي القاوقجي و(سعيد العاص) فوجه الفرنسيون لهم حملة بقيادة الجنرال (مارتي) حيث واجهها الثوار الذين بلغ عددهم حوالي 800 مجاهد في مضيق (عيون العلق) شمال قرية (قارة) لمدة ثلاث ساعات أستشهد فيها 18 من الثوار على رأسهم (فؤاد رسلان) من حمص، وفي يوم 14 آذار 1926م حدثت معركة (النبك) التي أحرز فيها الثوار انتصارات كبيرة، وبعدها انقسم الثوار لقسمين، الأول بقيادة الضابط فوزي القاوقجي انتقل إلى (عسال الورد) والقسم الثاني بقيادة المجاهد سعيد العاص انتقل إلى (أكروم) الواقعة بين القصير والهرمل لتكون قاعدة جديدة للعمليات الحربية ضد الفرنسيين في حمص التي دخلها 14 مجاهد بقيادة (نظير النشواتي) وهاجموا مخفر حي (باب السباع) حيث قتلوا ضابطين وعدد من الجنود واستولوا على غنائم ثم توجهوا لإلى أكروم لكن الفرنسيين قبضوا عليهم في (خربة غازي) حيث تم إعدام كل من (نظير النشواتي - حسين جراد - سعيد الشهلة - عبد الكريم العاصي) الباقون تم إعدامهم في حمص ما عدى أثنين استطاعوا الفرار من ساحة الإعدام.
وفي أيار 1926 وجهت فرنسا حملة ضد سعيد العاص في أكروم وأخرى ضد (الجعافرة) الذين يقودهم المجاهد (زين مرعي) إلا إن الفرنسيين خسروا في معركة (وادي فيسان) والجعافرة انتصروا بمساعدة سعيد العاص بعد أن فقدوا 14 شهيد بينما الفرنسيين خسروا في المعركتين حوالي 500 مابين قتيل وجريح وأسير، وبعد هذا الانتصار تداعى شيوخ الهرمل لقد اجتماع عقد في قرية (مرجحين) وذلك يوم 30 أيار 1926م قرر فيه:

    1- تشكيل جيش خاص يطلق عليه اسم (جيش أمير المؤمنين) وتسليم قيادته للمجاهد سعيد العاص.
    2- تقسيم مناطق العمل على عصب المجاهدين كالتالي:
                 - عصبة بعلبك : المنطقة الواقعة بين رياق وبعلبك
                 - عصبة طعان : المنطقة الواقعة بين بعلبك ورأس اللبوة.
                 - عصبة الجعافرة : المنطقة الواقعة بين اللبوة والقصير.
                 - عصبة حمص : المنطقة الواقعة بين القصير حتى حمص.
    3- تسليم الحكم في المنطقة للسيد (حسن طعان الدندشي).
    4- المطالبة بالانفصال عن لبنان والانضمام إلى سورية.

وقد وضعوا البند الأخير في بيان عام وقعوه وأرسلوا نسخاً منه لكل من سلطان باشا الأطرش والدكتور عبد الرحمن الشهبندر وللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني في القاهرة ولعصبة الأمم.
بعد ذلك قمت ثورة في بعلبك بقيادة المجاهد (هولو حيدر) ، أما سعيد العاص فقد أنتقل لشمال لبنان بعد أن أصبح الحكم في الهرمل وطنياً، وعندما وصل في حزيران 1926م اتخذ من قرية (الضنية) مركزاً له حيث أسس فيها حكومة أسند الأمن إلى (فائق الكيالي) ومديرية الشرطة إلى (حسن البعلبكي) لكن الفرنسيين أغاروا على المنطقة، فأنسحب إلى بعلبك ومن ثم إلى غوطة دمشق برفقة هولو حيدر ليتابع الجهاد هناك.

 

الثورات في منطقة دمشق والغوطة وسهل حوران

بدأت الثورة بهذه المنطقة بعد عودة الشهبندر من جبل العرب، باجتماع في دار المرحوم الحاج (عدنان الشرباتي) في آب 1925م وقد ضم كلاً من (القائم مقام يحي حياتي - الدكتور عبد الرحمن الشهبندر - فوزي البكري - نسيب البكري - حسن الحكيم - سعيد حيدر - سعيد الدين مؤيد العظم - ذكي الدروبي نبيه العظمة - توفيق الحلبي - جميل مردم - عبد المجيد الطباخ) كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 139، وقد قرروا نقل الثورة من جبل العرب إلى دمشق فلذلك أرسلوا كلاً من ذكي الدروبي وتوفيق الحلبي للاتصال بالثوار في جبل الموحدين والاتفاق معهم على اللقاء في (الكسوة) لتحرير دمشق، وتم الاتفاق مع زعماء الجبل على إرسال حملة من ثوار الجبل إلى دمشق، وقد توجه عدد من مجاهدي دمشق إلى الجبل لمرافقة هذه الحملة إثناء مسيرها ، وقد التحق بالثورة عدد كبير من الثوار من مختلف المناطق السورية مسلمين وأكراد ومسيحيين بالإضافة إلى الموحدين مما يدل على اللحمة الوطنية والوعي الفطري لأبناء الشعب الواحد، توجهت حملة الجبل باتجاه دمشق في 24 آب 1925م ، لكنها منيت بخسارة في (العادلية) قرب الكسوة، وبأمر من قائد الثورة وصل عدد من المجاهدين إلى دمشق فرادى، وكانت أول المعارك في الغوطة هي معركة (جوبر) يوم 13/10/1925م حيث اصطدم بعض المجاهدين مع حملة فرنسية انهزمت حتى وصلت (باب توما)، وفي اليوم التالي حدثت معركة (المليحة) عندما أرسلت فرنسا حملة مؤلفة من 1300 جندي للانتقام، فدارت معركة عنيفة عند (جسر الغيضة) كانت الغلبة للثوار لكن الطائرات حالت دون انتصارهم فانسحبوا إلى (الهيجانة)، كان لمعركة المليحة التي دعيت بمعركة الزور الثانية نتائج مهمة إذ إن قائد الحملة قبض على 24 رجلاً من أبناء المنطقة وقام بإعدامهم وأرسلهم إلى دمشق على إنهم من الثوار، إلا إن هذا العمل أدى لغضب الأهالي فأخذوا ينضمون للثورة بدل الانفضاض عنها.
تجمع عدد كبير من المجاهدين في الهيجانة و(حران العواميد) برئاسة نسيب البكري ورمضان شلاش بن عبد الله السليمان بن عبدالله السليمان لتحضير هجوم على دمشق، وفي 5/10/1925 قاموا بالهجوم على الضمير وهزموا حاميتها، لكن وصول الدبابات والطائرات من دمشق جعل الثوار ينسحبوا بعد أن غنموا ثلاثة رشاشات وعدد من الجمال، وفي 18/10/1925م تم مهاجمة دمشق ودخولها مكبدين الفرنسيين 107 قتيل بقيادة حسن الخراط، كما أطلق الثوار بقيادة نسيب البكري النار على مقصورة المندوب السامي (ساراي) الذي كان عائدا من (إزرع) إلى دمشق لكنهم لم يتمكنوا من قتله، وبعد وصوله إلى (قصر العظم) حاول عدد من الثوار قتله بقيادة (حسن المقبعة - أبا علي كليب) اللذان سقطا شهيدين في فناء القصر، وفر سراي إلى بيروت فوراً بعد إعطائه الأمر لقائد منطقة دمشق (أندريا) بضرب المدينة بالقنابل وامتد القصف من مساء الأحد إلى ظهر الثلاثاء 20/10/1925م مما سبب تدمير كثير من الأحياء كما دمرت بيوت عريقة في حي الشاغور كبيوت آل الركابي وآل البكري وآل القوتلي ...
كفاح الشعب العربي السوري - الرائد إحسان هندي - ص 143، لم يهدأ القصف إلا بعد توسط قناصل الدول، وبعد زيارة كلاً من الأمير (سعيد الجزائري) والسيد (حقي العظم) وفرض غرامة على أهالي دمشق بلغت مائة ألف ليرة عثمانية ذهبية وثلاثة آلاف بندقية، ومنذ أوائل تشرين الثاني اعتصم الثوار في الغوطة، فوجهت فرنسا لهم عدة حملات للقضاء عليهم، وقام المندوب الجديد (دي جوفنيل) بتحصين مدينة دمشق .
ومن أهم معارك الغوطة جرت في (يلدا) في 5 كانون الأول 1925م وكان عدد الفرنسيين حوالي 2000 جندي يوازيه عدد الثوار الذين أغاروا على العدو من كل جهة اضطرته للتراجع بعد ان خسروا المئات من القتلى مقابل استشهاد تسعة عشر من الثوار، بعد ذلك حدثت معركة (بستان الباكير) ثم معركة (بستان الذهبي) القريب من المقبرة اليهودية التي استشهد فيها حسن الخراط، ، ثم تلتها معركة قرية (حمورة) حيث اصطدم بعض المجاهدين أمثال (سعيد العاص - منير الريس - نزيه المؤيد العظم - محمد أبو يحي) بقوة فرنسية ضخمة فكبدوها 62 قتيلاً، لكن الفرنسيين انتقموا بمهاجمة القرية في اليوم التالي وقتل 22 من أبنائها، وفي كانون الثاني 1926م حدثت معركة (البندقة) قرب كفر سوسة، تلتها معركة (زاوية الحمره) قرب داريا التي سقط فيها 40 قتيلا فرنسياً بينهم ضابطان، ثم حدثت معركة الحتيتة ومعركة مئذنة الشحم.

- أما في سهل حوران فقد ظل الأهالي محافظين على هدوئهم إجمالاً نظراً للضغائن السابقة بينهم وبين جيرانهم الجبليين، إلا إن اشتعال الثورة في المناطق المحيطة بهم -الجبل والغوطة والإقليم- جعل بعض زعمائهم يظهرون الرغبة في تلبية نداء الثورة وانضمام بعضهم إلى صفوف الثوار ومساندتهم وخصوصاً في المسيفرة، فاستقبلت قريتا الحريّك والحراك الحملة الدرزية التي توجهت نحوها برئاسة قوادها العشرة ورافقها شبانها بعلمهم الكبير وطبلهم، وتقدمت هذه الحملة إلى الشيخ مسكين مركز مشيخة حوران ومن ثم توجهت إلى نوى فكان شيخها (مطلق الذيب) أحسن استقبالاً، ومن ثم عادت إلى الشيخ مسكين بعد أن تعرضت مراراً للطائرات، ومع ان أكثر القرى الحورانية التي مرّت بها الحملة قد أظهرت المناصرة والحفاوة إلا إن مهمة هذه الحملة في إشعال الثورة في حوران قد أخفقت كما أخفقت في التفاهم مع شيوخ اللجاة (الذين لم يرغب بعضهم أن تكون بلادهم ساحة حرب) وهكذا أصبح الاتصال بين الغوطة والجبل مفقوداً مما اضطر الموحدين إلى محاولة دخول اللجاة عنوة لتأمين اتصالهم بالغوطة فيفقد ذلك الكثير من قوتهم ووقتهم،واضطرهم لاستقدام المقاتلة الدروز الموجودين خارج الجبل. الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد ص 174-175
 

 

من ذاكرة الثورة

مما قيل في معركة المزرعة:
  • قال الشيخ هاني علم الدين من السويداء:«بعد أن بدأ هجومنا الخاطف على العدو، سلّط رامي رشاش نيرانه علينا، فقتل منا: حسين وفرحان وأسعد علم الدين، وكاد يقضي علينا جميعاً لو لم يتسلّل إليه فتى في نحو الرابعة عشرة من عمره، ويعالجه بطعنة خنجر في ظهره أودت به. فأسرعت نحوه وقبلته على جبينه، وحاولت أن أعرف اسمه، فلم يجبني، وإنما قال: بخاطرك يا عم!.. ووثب كالنمر باتجاه اثنين من رفاقه كانا يفعلان فعله في المعركة... فلم أتمالك نفسي من البكاء، وأنا أنظر إليهم وسط غبار تلك المعمعة الرهيبة».
• جاء في مذكرات الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ص 28- طبعة دمشق 1933م ، ما يلي : «جرت ملحمة بالسلاح الأبيض لم يجر مثلها منذ ذكر الواقدي خبر الفتوحات»
 • كما يذكر الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكراته صفحة30ـ31 في وصف ما شهده بنفسه من آثار تلك المعركة:
«وقد زرت ساحة هذه الملحمة مراراً، وحاولت أن أحصي عدد الجثث الملقاة فيها بالضبط فلم أفلح لسعتها، وحسبي أن أقول: إنني مشيت من عين (المزرعة) إلى الطريق المعبدة مغرّباً، نحو ساعتين، بين الجثث والعتاد الملقى على الأرض، فلم أنته منها، ورأيت خمس سيارات مصفحة محروقة، وقد أمالها الموحدين على جوانبها عند الهجوم بأكتافهم، وقتلوا  سواقيها ومساعديهم بالمسدسات من كواها المرتفعة، وأن رؤية هؤلاء السواقين متعانقين ملتحمين، تدل على هول ما
لاقوه من المهاجمين..».
ثم يتحدث عن الجنود الفارين من المعركة، ويصف وصولهم إلى محطة ازرع، على لسان شاهد عيان من المسافرين فيقول: «وقد وصفهم احد المسافرين في المحطة، فقال: لا أدل على الاختلال الذي طرأ على عقول هؤلاء، في هذه الملحمة، من رؤيتهم وهم يلقون بأنفسهم على القطار الذاهب إلى دمشق، فقد كانوا يتمسكون بالمركبات تمسّك الغريق بنواتيء..... الصخور. وكثيراً ما كان الشبح منهم يتراءى عن بعد قادماً إلى المحطة ثم يختفي، إما لخور عزيمته، أو لضلاله الطريق. وكانت الضمائد على جراحهم واللفائف على رؤوسهم، فيتوهّم المرء أنهم أهل مستشفى فرّوا منه لحريق أصابه...».
ويذكر ظافر القاسمي هذه المعركة في صفحتي 119-120، حيث يقول عنها : «معركة المزرعة، هي التي عرفت في تاريخ الثورة السورية، وعلى ألسنة الخاصة والعامة، باسم حملة ميشو (Michaud) وسارت مسير الأمثال، وطارت شهرتها في الآفاق، وشككت الأوساط العسكرية في قوة الجيش الفرنسي ونظامه وكفايته. في وقت كان الناس فيه يعتقدون بأن فرنسا تملك أكبر جيش بري في الدنيا، وكانت فرنسا نفسها تباهي بذلك أية مباهاة، وما من شك في أن القوتين، قوة الموحدين وقوة فرنسا، لم تكونا متعادلتين، ولكن لحكمة أرادها الله كتب النصر المبين فيها للمجاهدين على شكل يكاد يكون أقرب إلى الأساطير منه إلى الحقائق..».
 • جاء في (
الكتاب الذهبي لجيش الشرق - منشورات الجيش الفرنسي - 1939م - الصفحة 141- ترجمة فؤاد البستاني) أن الحملة الفرنسية كانت تتألف من «لواء مشاة بقيادة (لونيه) ويشتمل على كتيبة القائد (غابل) التابعة لفيلق الإفريقيين الحادي والعشرين، كتيبة سنغالية، وكتيبة سورية بقيادة (لوغاي) وكتيبة الرشاشات الثانية التابعة لفيلق الرماة الإفريقيين الحادي والعشرين بقيادة الكابتن (غراردي) تعضده مفرزة سيارات مصفحة بقيادة اليوتنان (غاسكه) وسريتي رشاشات كان يتولى قيادتهما (دجو) و(سيكالدي) وقوافل ذخيرة...».
   • ويذكر المجاهد علي عبيد   في مذكراته : «مررنا على المشهد المخيف الذي لم يكن أحد ليحلم به لولا معونة الحق سبحانه وتعالى لأنك من الدور إلى ماء المزرعة (12/كم) لا يفارقك شوف (رؤية) القتلى من إنسان وحيوان ولا عشرة أذرع على بعضها البعض وأحياناً نرى ان العشرون أو الثلاثون واقعون رأس على عقب مما هو متروك ومحروق من دبابات وأتوموبيلات شحن وخيول، والخلاصة هذه الواقعة لو خيلت للإنسان في المنام فلا يصدقها قطعياً.»
الثورة السورية الكبرى - سلامة عبيد - ص 137.
 

- يُذكر أن المجاهد سلطان كان مع فرقة من الثوار يعبرون منطقة جبلية وعرة متجهين إلى الأردن، ويقال أنه قد تم نصب كمين لهم من قبل الفرنسيين الذين لم يستطيعوا تتبعهم من دون تغطية لطيرانهم الجوي، وفي ساعةٍ مبكرة فوجئ الثوار بقصف جوي كثيف وعلى حين غرة، فراح المجاهدون ينجون بأرواحهم مختبئين بين الصخور المتناثرة على جانب الطريق، ويذكر أن المجاهد سلطان ظل ممتطياً جواده غير آبهٍ بقصف الطيران الفرنسي وحينما انتهى القصف ظن الثوار أن سلطان قد استشهد، وإذ به من بين الدخان يتراءى على فرسه من بعيد وعلى وقع ذات الخطوات رافعاً رأسه وحاضناً بندقيته وكأن قصفاًً لم يكن… وما إن رآه الثوار إلا وراحوا يصيحون روح يا بطل الله يحييك… الله أكبر… الله أكبر…

- بعد الاستقلال طلبت صحفية ألمانية من القائد العام أن يوجز لها البطولات التي حدثت خلال الثورة فأجابها: لا يوجد على هذه الأرض حجر إلا وقلبته حوافر خيلنا، ولا توجد حفنة تراب لم ترو بدمائنا، ولكل مجاهد فينا قصص كثيرة من قصص البطولة والشهادة والفداء وليست قصة واحدة، ويلزمنا لرويها تاريخاً كاملاً، فكيف يمكن إيجازها.

- يروي سلطان باشا الأطرش في كتاب (
أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش-مصطفى طلاس-دمشق-دار طلاس-ط2 2008) حين وصلوا، ثوار الجبل وثوار الغوطة لفك أسر النساء والأطفال وكبار السن من أهالي الجولان، الذين ساقهم حلفاء الفرنسيين إلى منطقة موحلة تسمى (نقعة جمرا) استعاد ثوار الإقليم معنوياتهم وصاروا يزأرون كالأسود ويفتكون بأعدائهم ويضيف انه من أكثر المشاهد إيلاما غوص الأطفال والنساء بالأوحال، وتلوث جروح المصابين بالطين، وإن أماً قتلت برصاص الفرنسيين فاقترب منها أحد أقاربها ليأخذ طفلها عن صدرها، فهب ينخي الرجال وينشدهم الأخذ بالثأر وهو يصيح: هذا الطفل يرضع حليباً ممزوجاً بالدم.
- يذكر أن سبعة من آل علم الدين قضوا في معركة السويداء وهم يتداولون رفع بيرق مدينتهم ولم يسمحوا بسقوطه فسجلوا مأثرة من مآثر البطولة التي لا تمحى.